logo
تعالوا نرمم البشر قبل الحجر في سوريا الجديدة!!
بقلم : د. فيصل القاسم ... 02.08.2025

دعونا نتفق أولاً أن كل السوريين دون استثناء هم صنيعة نظام البعث الساقط بكل أمراضه وأدرانه وعاهاته وسرطاناته. ولا ننسى طبعاً قوى الشر العالمية التي هندست جماعات التطرف وغذت الصراعات الأهلية والعقدية في الشرق الأوسط ومازالت تستخدمها خدمة لمشاريعها. لا ننسى الدور الإيراني الخبيث الذي دق الأسافين بين الطوائف والمذاهب ليتمدد فوق تناحرها وتناقضاتها.
نعم سقط النظام الأسدي وسقط معه السرطان الإيراني، لكنه ترك لنا ما نراه اليوم على أرض سوريا من صراعات وأحقاد وضغائن قاتلة تشتعل عند أول احتكاك، فقد دخلنا للأسف في كابوس جديد، وهناك من يدفع باتجاه التمزيق. الناس لم تتصالح، بل كشّر البعض عن أنيابه. الصراع لم ينتهِ، بل تغيّر شكله ولبس أقنعة جديدة: طائفية ودينية وعرقية ومناطقية وحتى شخصية. صار السوري عدو السوري. الطاغية سقط، لكن الطغيان ما زال حيّاً فينا. سقط رأس النظام، لكن الجثة ما زالت تتحرك بيننا. سقط القصر، لكن السجون بقيت في العقول، والمشانق في الذاكرة، والخوف في الدم. ظننا أن إسقاط الحاكم هو نهاية الطريق، واكتشفنا أنه مجرد بداية الكارثة. ما بعد سقوط النظام تجلّت سوريا الحقيقية التي صنعها آل الأسد: الممزقة، المريضة، المليئة بالانقسامات، بالأحقاد، بالعفن المتراكم تحت الركام.
خرجت الطوائف من مخابئها، خرجت العشائر بأسلحتها، خرجت القوميات بخطابها، وخرجت الميليشيات بأنيابها. سوريا لم تكن دولة… كانت للأسف ساحة مفخّخة، ونحتاج اليوم إلى نزع الألغام التي تهدد وجودها.
عندما ثار السوريون ضد نظام الأسد، ظنّوا أن سقوطه سيكون بوابة الخلاص. لكن الحقيقة التي لا يريد الكثيرون الاعتراف بها هي أننا لم نكن مستعدين للحظة ما بعد السقوط، لذلك أمامنا أشواط طويلة كي نملأ الفراغ بالعدالة والمؤسسات لا بالميليشيات والولاءات الضيقة والانقسامات العميقة كما أرادها النظام البائد تماماً.
هل كانت لدينا بنية حقيقية للحكم، للعدالة، للمشاركة؟ أم إن ما عشناه طوال العقود الماضية، وما نعيشه اليوم، يكشف أننا نحتاج إلى أكثر من ثورة… نحتاج إلى ولادة من جديد؟ لا يمكن بناء وطن على أنقاض إنسان محطم، فالثورات لا تُقاس فقط بعدد الشهداء، بل بعدد القيم التي تغيّرت. ولا معنى لسقوط النظام إذا كنا نعيد إنتاجه يومياً في كل شارع، في كل خطاب، في كل تصرف. إسقاط النظام لم يكن النصر. النصر هو أن نكفّ عن السير على خطاه.
اليوم، سوريا لا تنزف فقط من جراح الحرب، بل من عُقم الوعي، وخواء الضمير، وفقر العقل. أصبحنا نحارب بعضنا بأسلحة النظام نفسه: التخوين، الكراهية، التحريض، التكفير، الشيطنة.
أصبحنا نصنّف بعضنا كما صنّفنا هو: هذا من طائفة «خائنة»، وهذا من منطقة «عميلة»، وهذا من قومية «انفصالية»، وهذا من حزب «مرتزق». لقد انتقل النظام إلى دمنا، إلى لغتنا، إلى سلوكنا اليومي… دون أن نشعر. نحن لسنا ضحايا فقط… نحن أيضاً جزء من المشكلة. وإن لم نملك الشجاعة للاعتراف بأن المشكلة فينا كما فيهم، فلن نخرج من هذا الجحيم أبداً.
الخطأ الكبير الذي وقع فيه كثيرون هو أنهم اعتقدوا أن تغيير النظام السياسي كافٍ لبناء الوطن. لكن الحقيقة الجارحة أن البناء يبدأ من الإنسان. يمكنك أن تسقط طاغية في يوم، لكنك لا تستطيع أن تقتلع ثقافة الطغيان من عقول الناس بنفس السرعة. السوري اليوم – للأسف – لم يتحرر فعلياً، بل ورث منظومة كاملة من الكراهية، التبعية، الغرائزية، والانغلاق. نحتاج إلى ما هو أصعب: نحتاج إلى ثورة على الذات، ثورة تقتلع الأحقاد المتجذرة، تفكك الانتماءات القاتلة، وتبني وعياً جديداً، وهوية جامعة، وإنساناً حراً مسؤولاً.
من هو الإنسان السوري الجديد؟ هو من يفهم أن الوطن ليس مزرعة طائفة أو مذهب أو غنيمة عشيرة أو فصيل. هو من يعرف أن حريته تقف عند حدود حرية الآخرين. هو من يرى في المختلف شريكاً لا خائناً أو كافراً، وفي النقد ضرورة لا خيانة. هو من ينتمي لسوريا، لا لمذهبه أو زعيمه أو ميليشيات وشيوخ منطقته. لكن هل نملك الجرأة لنصبح هؤلاء؟ إن لم نعترف بأننا كلنا نتحمّل جزءاً من هذه الفوضى، فلن نخرج منها. إن لم نواجه أنفسنا بشجاعة، لن نصل إلى أي عدالة أو كرامة. الثورة ليست هتافاً ولا علماً، الثورة أن تهدم صنم الطاغية فيك قبل أن تهدمه في القصر. وإن لم نفعل ذلك، فكل ما نعيشه اليوم هو مجرد انهيار مؤجل، وانتحار جماعي بطيء.
**الصراع لم ينتهِ، بل تغيّر شكله ولبس أقنعة جديدة: طائفية ودينية وعرقية ومناطقية وحتى شخصية
لا قيمة للحجر قبل أن يُبنى الإنسان أولاً. كل مشاريع الإعمار لا يساوي شيئاً إذا ظل الإنسان السوري مكسوراً، ملوثاً، ومعبّأً بالجهل والحقد والطائفية. الخرسانة لا تُنتج وطناً، والطرقات لا تصنع دولة. من يصنع الدولة هو الإنسان، والإنسان فقط. وكل هذا الحديث عن إعادة إعمار المدن، والطرقات، والبنى التحتية، لا يساوي شيئاً أمام الحاجة لإعادة إعمار الإنسان. يمكنك أن تبني أجمل الأبنية، وأن تُطلق أرقى الخطط، لكن إن لم يكن الساكن إنساناً سوياً، فستنهار من الداخل. ولا ننسى أيضاً أن الاستثمارات لا يمكن أن تتدفق على بلدان تسكنها شعوب متناحرة، وبالتالي فإن الاستثمار بالإنسان بدوره سيعزز الاستثمار بالعمران.
من هو الإنسان السوري الجديد الذي نحلم به؟ لسنا بحاجة إلى نسخة حديثة من «المناضل القديم». نحن بحاجة إلى إنسان: لا يقدّس منطقة أو طائفة أو مذهباً أو راية أو لهجة، بل يقدّس العدالة والمواطنة والإنسانية. لا يورّث أطفاله أحقاداً، بل قيماً. هذا الإنسان لا يُصنع بالخطابات ولا بالمقالات ولا بالمفاوضات، بل يُصنع في المدرسة، والبيت، والجامع، والكنيسة، والمخيم، والمنفى، والمعركة. ويقول كانط: «لكي تغيروا المجتمع ينبغي أولاً أن تغيروا العقليات السائدة فيه عن طريق التعليم والتثقيف والتهذيب.» أعرف أن الوصول إلى هذا الهدف عسير جداً، وربما خيالي، لكن مع ذلك لا بأس أن نثرثر به، ولو على سبيل الهذيان.
والسؤال الذي يُفجّر القلب: حتى (لو) قررنا أخيراً أن نُرمّم إنساننا السوري…حتى لو اجتمعنا على نزع السلاح من عقولنا، قبل أكتافنا…حتى لو قلنا «كفى»، وأردنا أن نبدأ صفحة جديدة،
حتى لو قررنا أخيراً أن نبدأ من الإنسان…هل سيسمح لنا ضباع العالم أن نبني البشر؟ أن نُعيد إعمار الحجر؟ أم إن وظيفتنا، في عيونهم، أن نبقى وقوداً لصراعاتهم، سوقاً لسلاحهم، وأرضاً لتجاربهم؟ هل العالم مستعد لرؤية سوريٍ حرّ، مستقل، موحد، واعٍ؟ أم أن هذا هو الكابوس الحقيقي بالنسبة لهم؟ هل سيسمحون لنا أن نلمّ شظايا الوطن، أن نستفيق، أم إن وجودنا المفكك، الممزق، المجروح، هو ما يخدمهم؟ هل يرضيهم أن نعيش أحراراً، متساوين، متّحدين؟ أمأن سوريا القوية الجديدة هي الكابوس الذي لا يريدونه أن يتحقق أبداً؟


www.deyaralnagab.com