logo
خوارزميات شيطانية!
بقلم : د. فيصل القاسم ... 17.05.2025

عندما بدأوا يفكرون بإطلاق بعض مواقع التواصل عالمياً كانوا يبررون ذلك بأن العالم بشكل عام والغربي بشكل خاص قد تدهورت فيه العلاقات الاجتماعية، وانقطعت خيوط التواصل بين الناس، ولم يعودوا يتفاعلون بالشكل المطلوب، وبالتالي جاءت مواقع التواصل لتسد هذا الفراغ الخطير وتعيد ربط ما انقطع من أواصر بين البشر، لهذا أطلقوا عليها اسم «مواقع التواصل الاجتماعي» لتكون بمثابة شبكات افتراضية لتعويض النقص الحاد الذي حصل في التفاعل الاجتماعي. لكن هل هذه هي الحقيقة يا ترى فعلاً؟
هل جاءت مواقع التواصل لتعزيز التواصل الإنساني، أم لأغراض سياسية وثقافية واقتصادية شيطانية أخرى؟ أعتقد أن الجواب على هذا السؤال يمكن أن نجده في إحدى حلقات البحث التي أجرها مؤتمر ميونخ للأمن في دورته الأخيرة بألمانيا، فقد ناقش الحضور دور مواقع التواصل في إثارة الحروب وتغذيتها. والملفت في الأمر أن الذين ناقشوا ذلك الدور الخطير لمواقع التواصل كانوا كبار رجالات الأمن في الغرب والعالم. بعبارة أخرى، فإن ملامح الدور الرهيب الذي باتت تلعبه مواقع التواصل بدأ يتوضح أكثر فأكثر ليصل إلى حدود غاية في الخطورة على البشرية كالتحريض على الصراعات وإثارة القلاقل الاجتماعية والسياسية، خاصة وأن مبرمجي الخوارزميات يستطيعون أن يوجهوا الرأي العام في الاتجاه الذي يريده ضباع العالم حسبما يخدم غاياتهم ومصالحهم بالدرجة الأولى. ولا ننسى أن بعض الدول الكبرى وخاصة في الغرب صارت تراقب خوارزميات مواقع التواصل في وقت الانتخابات، لا سيما وأن أمريكا نفسها اتهمت روسيا قبل سنوات بالتلاعب بنتائج الانتخابات الأمريكية من خلال مواقع التواصل. وحتى الرئيس الأمريكي الحالي استفاد كثيراً من خوارزميات صديقه إيلون ماسك ومنصاته للفوز بالانتخابات. بعبارة أخرى، فحتى الدول المتقدمة، ذات الديمقراطيات الراسخة، ليست بالضرورة أفضل حالاً منا بكثير. قوانين اللعبة كلها تغيّرت، كما يقول الكاتب اللبناني إياد أبو شقرا: «لسنا وحدنا نعاني يومياً من هجمات «الذباب الإلكتروني» المشبوه، الذي يزوّر الحقائق ويقلب المفاهيم ويصبّ الزيت على نار التعصب والعنصرية وينسف التفاعل الجدّي بين مكونات المجتمع، عبر حسابات مموّهة وأبواق وأدوات استخباراتية خطرة. في أمريكا وبريطانيا وهولندا وألمانيا، وغيرها، تأكد خلال العقد المنقضي خطر دور «وسائل التواصل» في الكذب والتزوير والافتراء والتحريض والاغتيال المعنوي، الذي ساعد على تعزيز مواقع الأحزاب المتطرفة والعنصرية، بينما في العديد من بلداننا العربية فقد تحوّلت «وسائل التواصل الاجتماعي» المتفلتة، في غياب تشريعات رادعة، فعلياً إلى أدوات فتنة وحروب أهلية.
كشف تحقيق استقصائي أجرته القناة البريطانية أن هناك شبكات من الحسابات الخارجية تنشط على منصات كثيرة، وتعمل على تأجيج الطائفية، إلى جانب ترويج معلومات مضللة حول الأوضاع في سوريا
باختصار، فإن الخوارزميات باتت تُعد اليوم سلاحاً فتاكاً لتوجيه الشعوب وبرمجتها، وهي لم تعد أبداً مواقع تفاعل وتواصل كم تزعم، بل صارت مواقع تفاصل وتناحر سياسي واجتماعي خطير. ولنا في المسألة السورية خير دليل. هل يا ترى أن حملات التحريض والتأجيج والتهييج والفتن والمؤامرات والحملات الإعلامية الشريرة المنظمة التي تتعرض لها سوريا والسوريون اليوم وتنتشر كانتشار النار في الهشيم على المواقع، ولا يُعاقب عليها أحد، بل تساهم المواقع في زيادة انتشارها وتوزيعها على نطاق واسع، هل هي مجرد مناوشات بريئة بين السوريين، أم إنها حملات ممنهجة ومبرمجة تجري تحت أعين الخوارزميات وبدعم وتشجيع منها؟ ألم تفضح قناة البي بي سي البريطانية مخططاً جهنمياً لإثارة الفوضى وبث الفتن وضرب الاستقرار في سوريا؟
لقد كشف تحقيق استقصائي أجرته القناة البريطانية أن هناك شبكات من الحسابات الخارجية تنشط على منصات كثيرة، وتعمل على تأجيج الطائفية ونشر خطاب الكراهية، إلى جانب ترويج معلومات مضللة حول الأوضاع في سوريا. وأوضح التحقيق أن هذه الشبكات تُدار بشكل منسّق ومنهجي، ضمن حملات إلكترونية استهدفت الحكومة السورية وبعض الأقليّات، بالتزامن مع التغيرات السياسية التي تشهدها البلاد. وقد تمكّن فريق بي بي سي لتقصي الحقائق من تتبّع نشاط هذه الحسابات من خلال رصد أكثر من مليوني منشور مرتبط بالأحداث في سوريا، منذ سقوط نظام بشار الأسد. وارتبطت المنشورات بحملات تضليل وخطاب كراهية واسعة النطاق من قِبل خصوم الإدارة السورية الجديدة. وهو أم للأسف قد ينطلي على ملايين البسطاء.
إياكم أن تظنوا أن المواقع المفتوحة التي تدخلونها بالمليارات هي للتعارف، وأن بمقدور الناس أن ينشروا كل ما يريدون عبر الأثير الالكتروني المفتوح. لا أبداً، فالحقيقة المُرة أن تلك المواقع مضبوطة وموجهة بشكل شيطاني، وهي تراقب كل كلمة يكتبها الناس في حساباتهم عبر العالم، ولديها ممنوعات وحتى كلمات كثيرة محظور ذكرها في أي منشور، ناهيك عن وجود عقوبات صارمة بمجرد التطرق إلى موضوعات معينة. إنهم يراقبون كل كلمة وكل صورة تنشرها على حسابك، ولطالما عاقبونا على جملة معينة أو حتى كلمة أحياناً لا تروق لخوارزمياتهم. ومواقع التواصل تشبه في أحيان كثيرة أجهزة الأمن في البلدان الديكتاتورية، فلكل مواطن ملفه الخاص وفيه كل التهم الموجهة إليه، وهي لا تسقط بالتقادم، بل يمكن معاقبته عليها بعد سنوات وسنوات، خاصة إذا كان مسافراً خارج البلاد ثم عاد، ولطالما اعتقلت المخابرات السورية أشخاصاً غابوا عن سوريا لعقود ثم عندما وصلوا إلى المطار تم شحنهم إلى فروع الأمن ليختفوا بعدها خلف الشمس عقاباً لهم على فعل أو مقال أو تصريح تفوهوا به وهم خارج البلاد قبل سنوات. وبدورها فإن مواقع التواصل لا تنسى لك شيئاً، ففي بعض الأحيان تصلك عقوبة على منشور نشرته قبل أكثر من عشر سنوات، أو يصلك تحذير بأن الصورة الفلانية التي نشرتها قبل سنوات لم تكن مناسبة ولا بد من حذفها والحصول على عقوبة على نشرها.
كم نحن وشعوبنا في حاجة لدورات مكثفة لفهم هذا العالم الإعلامي الشيطاني كي لا نكون مجرد أدوات ووقود لمحركاته. وأجارنا الله من عصر الخوارزميات الشيطانية التي على ما يبدو ستكون مجرد مقبلات لكوارث الذكاء الاصطناعي القادمة.


www.deyaralnagab.com