جُثثٌ عن جُثَثٍ تفرِق!!
بقلم : سهيل كيوان ... 23.10.2025
لا ينتهي ظُلم الفلسطيني بموته، فهو قد يُظلم كجثةٍ كذلك. قد يستشهد الفلسطيني من خلال الانضمام للمقاومة، أو في حادث “أمنيٍّ” عابر، أو على يد مستوطن، خلال مكوثه في مزرعته، أو خلال جني محصوله من الزيتون أو غيره، وقد يسقط من شاهق في ورشة عمل، من غير ترخيص دخول إلى إسرائيل، فيُنكره الجميع. قد يدفع روحه ثمناً أثناء محاولة التسلُّق من فوق جدار العزل العنصري، فيجري اصطياده برصاص حرس الحدود، أو خلال محاولته فتح ثغرة تحت الجدار للعبور إلى داخل دولة الاحتلال، كي يعرض قوّة عمله للبيع بسعر مناسب.
قد ينجح في رحلة الذهاب فيجني بعض المال، ويفشل في الإياب، فيُعتقل ويجرّد من ماله، وقد يستشهد، أو يختفي قسرياً. ليس بالضرورة أن تكون هناك تهمة واضحة، فهنالك آلاف يقبعون في سجون الاحتلال من غير محاكمة. في أحيان كثيرة يجري تعذيب الأسرى بإشراف ومشاركة شخصية من الوزير الفاشي، الذي يحثُ الكنيست على إقرار قانون لإعدام الأسرى.
في هذه الأيام بدأت حملة تواقيع للضّغط على حكومة نتنياهو لإقرار قانون لإعدام الأسرى الفلسطينيين، ولكن يبدو أنّ هناك من يستبق القانون ويُعدم من غير محاكمة. للمفارقة، قد يكون سنُّ قانون إعدام الأسرى أرحمَ من عدم وجود قانون إعدام، لأنّ وجود قانون يعني إجراء محاكمة لاتخاذ القرار، بينما تجري الإعدامات بسهولة أكبر مع عدم وجود قانون. من يستلمون جثث شهداء قطاع غزّة الذين قضوا في معتقلات الاحتلال الفاشية، يشهدون على ما تعرّضت له الجثث من تشويه وتعذيب وتنكيل وسرقة أعضاء منها، فبعضها سُلِّم فارغاً من الأعضاء الداخلية. تحظى جثة الإسرائيلي باهتمام كبير من سُلطته، وكذلك باهتمام محلي وإقليمي عربي وعالمي، بينما تمرُّ جثّة الفلسطيني بعقوبات من غير مراعاة لحُرمة المّيْت. فمن لا حرمة لجسده وهو حيٌ يُرزق، لا حرمة لجثّته وهو ميِّت. جثثُ الأقوياء لها حرمتها، وجثث الضعفاء تُنتهك مثلما كانت منتهكة في حياتها. اشتهرت مقابر الأرقام في تاريخ الصراع الإسرائيلي. العرب هم الأرقام، بغض النّظر من أيِّ عرب هم، لبنانيون وفلسطينيون وسوريون ومصريّون وعراقيون أردنيون وغيرهم، جميعُهم أرقام. مقابر الأرقام أو مراكز التّجميد، ما زالت فعّالة وتحوي مئات من الجثث. أحد طُرق الاحتلال بالانتقام من ذوي المقاومين، هو احتجاز جثامين أبنائهم ومنعهم من دفنهم، وبالتالي مضاعفة معاناتهم وآلامهم، واضطرارهم على التوجُّه إلى مؤسسات حقوق الإنسان، وإلى محامين بتكاليف باهظة، فقط لأجل الحصول على الجثّة ودفنها. كذلك فإن الاحتلال يمنع أهل الشّهيد من إقامة سرادق للعزاء، وفي كثير من الأحيان يجري الاعتداء على المعزّين، فيُهدمُ السُّرادق ويعاقبُ من جلسوا فيه، ويُعتدى عليهم بالضرب بالهراوات أو يجري رشُّهم بخراطيم مياه ذات رائحة كريهة. يقصد الاحتلال تأكيد أنّه لا حرمة للشّهيد، ولا لطقوس تقام لأجله، وكي يُشعِر المنكوبين بضعفهم وعجزهم، وإمعاناً في تأكيد السّردية الصهيونية بأن المقاوم ليس مناضلاً بل هو “مخرّب”، حتى إن جثته لا تستحق الاحترام.
لقد رأى العالم كلُّه الاعتداء على مشيّعي نعش الصحافيّة الشّهيدة شيرين أبو عاقلة، بحجّة حمل النعش على الأكتاف بدلا من نقله في السّيارة وبعدد أكبر من المتّفق عليه من المشيّعين، إمعاناً في السّادية بعد قتلها برصاصة في الرأس. كان هذا في مايو عام 2022 أي قبل أكتوبر 2023 بكثير. معظم خطابات القادة والسّاسة في العالم خلال حرب الإبادة على غزّة، بما فيها خطاباتُ قادةٍ ومسؤولين من العرب، أكّدت ضرورة “إعادة المختطفين”، الأحياء منهم والجثث، طبعا يُقصد بها الإسرائيليون دون ذكرٍ لإطلاق سراح وإعادة مختطفين فلسطينيين يقبعون من غير محاكمة في معتقلات الاحتلال منذ أشهر وسنوات، وتقدّر أعدادهم بالآلاف. هكذا فإن لكلّ أسير إسرائيلي اسم وأسرة وأصدقاء وأحبّاء، وله شخصيته الإنسانية بجميع أبعادها، بينما ليس للشخصية الفلسطينية المعتقلة سوى بعد واحد، وهو أنّه رقم يضاف إلى أرقام سبقته، باستثناء بعض الأسماء بسبب شُهرة وموقع صاحبها، الذي لا يمكن تجاهله، مثل الدكتور حسام أبو صفية مدير مستشفى كمال عدوان، الذي اعتقل منذ أواخر العام الماضي، وما زال معتقلا إدارياً من غير محاكمة. خلال عملية التبادل الحالية، سلّم الاحتلال عشرات جثث الأسرى المشوّهة بصورة فظيعة، والبعض منها سُرقت أعضاؤها. لماذا وصل الأمر إلى هذه المرحلة من الاستخفاف بجثامين العرب؟ لقد أسهم النّظام العربي الفاسد إلى اعتبار العربي رقما. لا قيمة ولا حصانة ولا حرمة لجسد العربي في بلاده، هذا ثبت في أكثر من بلد، منها مثلا ما اتضح ورآه العالم بعد انهيار النظام السّوري، وبعد فتح المعتقلات، وطريقة النظام في تعامله مع المعتقلين التي وصلت درجة إخفاء الجثث وكبسها وابتزاز ذوي المعتقلين، فقط كي يعرفوا مكان اعتقالهم أو مكان دفنهم، كذلك طريقة تعامل النظام المصري مع من قتلهم خلال فضِّ اعتصام ميدان رابعة العدويّة عام 2013، حيث جرى تجريف مئات الجثث وإلقائها في سيارات جمع القمامة، ونقلها إلى أماكن مجهولة، والمحاكمات الصوريّة والاعتقالات بشبهة الانضمام لحركة إرهابية ممنوعة، وبلغت أعدادهم عشرات الآلاف. كذلك وجِّهت تهمٌ مشابهة لبعض المشاركين في احتجاجات على حرب الإبادة في قطاع غزة، وما زال بعضهم في المعتقلات المصريّة ومن غير محاكمة.
في معظم الدول العربية، تُختصر المواطنة في الخضوع التام، ومن يختلف يُعاقب، ممكن تدمير الإنسان بتهمة الانتماء إلى تيار سياسي معين، خصوصاً الإسلامي، حتى إن كان التزامه سلميا أو فكريا فقط، فالتيارات الإسلامية باتت شمّاعة للحصول على شرعية لقمع المعارضين. التهمة الجاهزة هي “الانتماء إلى جماعة محظورة أو التخابر معها “و”تهديد الأمن القومي”. هذه التّهم مدعومة بأجهزة أمنية وأبواق إعلامية وقانونية تعمل كمنظومة واحدة لتحطيم شرعية المعارضين، ومحاربتهم نفسيا واجتماعيا، وتهيئة المجتمع للقبول باعتقالهم وحتى بشرعية تعذيبهم وحتى إعدامهم. حين تُبخّس قيمة الإنسان في وطنه، فلا يمكن أن يتوقّع أو يستجدي احتراماً له من الخارج. هذه المعادلة المؤلمة تتجلّى بوضوح في قضية الأسرى الذين يعاملون كأرقام. هنالك آلاف من حالات الاختفاء القسري في قطاع غزّة، غير معروف هل هم أحياء في المعتقلات، أم هم شهداء في مقابر أرقام أو مراكز تجميد، أم تحت أنقاض بيوتهم؟ لا نسمع ولا نرى مؤتمرات صحافيّة ولا حملات دولية ومبادرات لإطلاق سراحهم، أو معرفة مصائرهم على الأقل، هل هم أحياء أو أموات وأين؟
هنالك علاقة لا تتجزّأ بين قيمة واعتبار الإنسان في وطنه، وتعامل الاحتلال والعالم معه. حين ترتقي قيمة الإنسان في وطنه وبلده، سيضطر العالم إلى التعامل معه كإنسان حيّاً وجثّة!!
www.deyaralnagab.com
|