logo
ماذا يحدث للأدوات بعد استخدامها؟!
بقلم : د. فيصل القاسم ... 27.12.2025

في السياسة، لا توجد صداقات دائمة ولا عداوات دائمة، بل مصالح دائمة. هذه القاعدة الباردة تفسّر بدقة ما يحدث للأدوات بعد استخدامها، ولماذا ينتهي بها المطاف ـ في الغالب ـ إمّا محروقة أو منسيّة أو مدفونة بلا شاهد. الأداة في السياسة ليست شريكاً، ولا حليفاً، ولا حتى خصماً محترماً؛ هي وسيلة مؤقتة أو مناديل ورقية، تُستعمل ما دامت نافعة، وتُرمى فور انتهاء الحاجة إليها.
الأداة السياسية قد تكون فرداً، جماعة، حزباً، فصيلاً، ميليشيا. ما يجمع بينها ليس الإيمان بقضية، بل قابليتها للاستخدام. تُغذّى هذه الأدوات بالمال، الخطاب، الوهم، وأحياناً بالسلاح، لتؤدي وظيفة محددة ضمن مشروع أكبر لا تملكه ولا تتحكم به. الخطير هنا أن الأداة غالباً ما تُقنع نفسها بأنها لاعب أساسي أو حليف أو ذات حظوة عند الطرف الذي يستخدمها ويستغلها، بينما هي في الحقيقة قابلة للاستهلاك لتحقيق مصالح المُستخدم فقط.
من ساحة المعركة إلى سلة المهملات. التاريخ مليء بأمثلة صارخة. في الحروب الكبرى، جُنّد آلاف المقاتلين تحت شعارات التحرير أو الخلاص أو العقيدة أو الاستقلال، ثم تُركوا بعد انتهاء الحرب لمصيرهم. لا معاشات، لا اعتراف، لا حماية. بعضهم طُورد، وبعضهم صُفّي، وبعضهم عاش منبوذاً. السبب بسيط: انتهت الحاجة.
في الحرب الباردة، استُخدمت حركات وأحزاب في دول العالم الثالث كأدوات صراع بين المعسكرين. ما إن تغيّر ميزان القوى أو سقط أحد المعسكرين، حتى سقطت تلك الحركات معه. لم يسأل أحد عن “نضالها «أو “تضحياتها». السياسة لا تتذكر إلا النتائج.
الجماعات الوظيفية: نموذج متكرر. في الشرق الأوسط وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، ظهرت جماعات مسلحة أو سياسية لعبت أدواراً وظيفية لصالح قوى إقليمية أو دولية. حين كانت مفيدة، فُتحت لها الحدود والإعلام والخزائن. وحين أصبحت عبئاً أو مصدر إزعاج، أُدرجت على لوائح الإرهاب، أو تُركت تواجه مصيرها وحدها وتندب حظها.
الأداة هنا لا تُحاسَب على أخلاقها، بل على كفاءتها الوظيفية. فإذا فشلت، أو استفذت دورها، أو طالبت بثمن أعلى، تتحول فوراً من حليف إلى مشكلة، أو عبء وفي كثير من الأحيان تلجأ الجهة التي تستثمر في هذه الجماعة أو تلك مؤقتاً، تلجأ إلى رفع الغطاء عنها وتفضحها إعلامياً عبر تسريبات إعلامية، أو تسلط عليها جهة أخرى لضربها وسحقها كما نرى اليوم في أكثر من مكان.
*التاريخ مليء بأمثلة صارخة. في الحروب الكبرى، جُنّد آلاف المقاتلين تحت شعارات التحرير أو الخلاص أو العقيدة أو الاستقلال، ثم تُركوا بعد انتهاء الحرب لمصيرهم. لا معاشات، لا اعتراف، لا حماية
المرتزقة: أوضح أشكال الأدوات. المرتزق هو الشكل الأكثر فجاجة للأداة السياسية. يقاتل مقابل أجر، بلا قضية حقيقية. مصيره معروف سلفاً: إمّا الموت، أو النسيان، أو التخلّي عنه عند أول تسوية. لا أحد يبني تماثيل للمرتزقة، ولا تُكتب أسماؤهم في كتب التاريخ إلا كهوامش سوداء. لكن المأساة ليست في وجود المرتزقة، بل في أولئك الذين يتوهمون أنهم ليسوا كذلك، بينما يفعلون الشيء نفسه مقابل ثمن «أكثر أناقة»: منصب، شهرة، أموال، حماية مؤقتة، وعود بالزعامة إلى ما هنالك. وكلنا يتذكر ماذا حصل في الثورة العربية الكبرى عام ألف وتسعمائة وستة عشر لبعض رموز وقادة تلك الثورة، وكيف استخدمهم الانكليز للانقلاب على العثمانيين ووعدوهم بدول قومية وزعامات، وعندما حققوا أهداف المخطط الاستعماري وقتها، انتهى بهم الأمر مطاردين ومنبوذين وهاربين. لكن المشكلة لا أحد يتعلم من تجارب الماضي أبداً، والشي الوحيد الذي نتعلمه من التاريخ حسب هيغل أن لا أحد يتعلم من التاريخ.
لماذا يقبل البعض أن يكون أداة؟ السؤال الجوهري: لماذا يرضى إنسان أو جماعة بهذا الدور؟ الجواب مزيج من: الطمع: وهم الربح السريع. الجهل: سوء فهم قواعد السياسة. الغرور: الاعتقاد بأنهم استثناء. الخوف: الارتماء في أحضان الأقوى طلباً للحماية. لكن السياسة لا تعترف بالاستثناءات. كل أداة تعتقد أنها ذكية بما يكفي لتنجو، تكتشف متأخرة أن الدور كان مكتوباً سلفاً، مرحلة مؤقتة من الاستخدام والاستغلال السياسي، ثم تتبدل مصالح المستخدم أو يكون قد حقق أهدافه وغاياته، فيرمي بأدواته في سلة المهملات.
ما الذي يبقى في النهاية؟ يبقى الفاعلون الحقيقيون فقط: من يملك القرار، المال، القوة، التخطيط، بُعد النظر، والحزم، والرؤية. أما الأدوات، فمصيرها أحد ثلاثة: التصفية إذا أصبحت عبئاً. الإهمال إذا فقدت قيمتها. الاستبدال إذا وُجد من هو أرخص أو أطوع وأكثر فائدة ومردوداً.
الخلاصة: في السياسة، لا أحد يستخدمك لأنه يحبك أو يغار عليك أو يعتبرك جزءًا منه، ولا يتخلى عنك لأنه يكرهك. يستخدمك لأنك مفيد في مرحلة معينة، ويتخلى عنك لأنك انتهيت. ولا ننسى حتى الأخوة ينقلبون على بعضهم البعض في السياسة، لا بل يقتلون بعضهم بعضاً بسبب تضارب المصالح. وكلنا يتذكر كيف استخدمت أمريكا من يسمون بالمجاهدين ذات يوم لطرد خصومها السوفيات من أفغانستان، واستقبلتهم في البيت الأبيض، ووصفتهم بالمقاتلين من أجل الحرية، ثم عندما انتصروا على السوفيات، وانتهت مهمتهم لاحقتهم أمريكا كإرهابيين وشحنتهم كالأنعام إلى معسكرات غوانتانامو لتسومهم سوء العذاب. ومن لا يفهم هذه القاعدة، محكوم عليه أن يكون وقوداً لمعارك غيره، أو حطباً في نار مشاريع لا تعنيه.
الدرس قاسٍ، لكنه الحقيقة العارية: إمّا أن تكون صاحب مشروع وإرادة، أو لا تطأ ساحة اللعبة من الأساس. أمّا من يرضى أن يكون أداة بيد غيره، فلا يحقّ له أن يتباكى عندما يُقذف إلى مزابل التاريخ بلا أسف، بعد أن يتحوّل إلى مثال يُضرَب في الرخص، والعمالة، والخيانة، والانحطاط، والسفالة، خاصة أولئك الذين يبيعون أنفسهم بثمن بخس للتآمر ضد بلادهم وأوطانهم.
الأدوات لا تُخلَّد، بل تُستهلك… ثم تُرمى في مكب النفايات… غير مأسوف عليها.


www.deyaralnagab.com