دموع المحبّة!!
بقلم : سهيل كيوان ... 10.07.2025
الخسارات نسبية، بعضها أشدُّ وطأة على صاحبها من أخرى، وخسارة الأرواح هي الأقسى، ولهذا يقولون «بالمال ولا بالعيال»، وهو شكل من المواساة التي أبدعها الإنسان.
هذا في تراث الشّعوب كلها، لأنّها غريزة إنسانية مشتركة لدى الجميع.
يقول الإنكليز «أن تخسر السّرج خيرٌ من أن تخسر الحصان».
ويقول الإسبان «أن تخسر عينًا أفضل من أن تخسر الجسد كله».
عندما تقع حادثة ما، أوّل ما يُسألُ عنه «هل هنالك إصابات؟». إذا لم تكن هناك إصابات فالمال يعوّض، وإذا كانت إصابات خفيفة فَـ «مليح اللي صار هيك ولا غير هيك». هنالك دائماً احتمال لما هو أسوأ.
تكاد بعض الحوادث أن تتحوّل إلى مناسبة لتبادل التّهاني، وليس الحزن كما يبدو للوهلة الأولى، ويبادر البعض إلى توزيع الحلوى بمناسبة السّلامة، رغم الخسارة الماديّة الكبيرة.
قبل أيام قليلة كنت جالساً في بيتي مع أبناء الأسرة. فجأة، راح بعض الموجودين يردّد «رائحة حريق». خرجت ونظرتُ، وإذ بسحابة دخان سوداء تظلّل الحيّ! هرعتُ إلى مصدر الدّخان الأسود، كان هذا من متجر صديق وجار، بدأت ألسِنةُ اللّهب تظهرُ من فوقه.
اضطر السّكان القريبون إخلاء البيوت إلى الجهة المعاكسة للريح.
أطنان من الكراسي والطاولات ومختلف لوازم البيت من أدوات منزلية ذات الاستعمال لمرّة واحدة، الكؤوس والأطباق والنايلون والأوراق والأكياس والكراتين من مختلف الأحجام، وكل ما يلزم للبيت ولحفلات الزّفاف.
حاول بعض الشّبان إنقاذ ما يمكن إنقاذه من البضائع، بإلقائها خارج المتجر الذي بات مظلماً بسبب الدخان الكثيف وانقطاع التّيار الكهربائي، وبات الدخول ولو بضع خطوات خطيراً، والجميع راح يناشد الجميع «بلاش مخاطرة، المهم السّلامة، بالمال ولا بالعيال يا شباب».
أكثر من واحد يتساءل هل اتّصلتم بالإطفاء؟ ويأتي الجواب نفسه- نعم اتصلنا منذ ربع ساعة.
-هنالك محطة إطفاء في البلدة أليس كذلك؟
-كانت هناك محطة إطفاء، ولكنها متوقّفة عن العمل منذُ أشهر.
النار ترتفع، أكثر وأكثر، وسحب الدّخان الأسود تغطّي مساحات واسعة، حتى صار يراها أهل البلدة من كل مكان، النار تمتد إلى مكانين مجاورين؛ الأول مليء بالأخشاب وصفائح طلاء وتربنتين.
انفجارات وألسنة لهب مرتفعة، انفجرت صفائح التربنتين مثل القنابل.
ابعدوا وافتحوا الطريق، لقد وصلت الإطفائية.
تدخّل الشّبان المتطوعون وفردوا الأنابيب لمساعدة رجال الإطفاء الذين تحركوا بتثاقل كما لو أنهم يدخلون إلى حفلٍ ما من غير دعوة، أحاطوا المنطقة بأشرطة حمراء.
وصلت الشّرطة كذلك، وأطلقت صفيرها لإخبار الجميع بحضورها، «من ليس له عمل فليبتعد».
كان جاري يتنقل من موقع إلى آخر، وأنا معه، يتأمّل كيف تأتي النيران بسرعة رهيبة على تعب سني عمره، من بناء المتجر، ثم توسعته، العتاد والبضائع التي يستقبلها أو يسافر إلى مختلف مناطق البلاد لاقتنائها. أخيراً بدأت خراطيم المياه والرّغوة تعمل على إطفاء الحريق، ولكن أصبح الأمر تحصيل حاصل، لم يعد هناك ما يمكن إنقاذه.
المكان الثالث طالته النيران يعمل في الألومنيوم، ولكن هنالك آلة قياس وقص رقميّة باهظة الثمن وحسّاسة جداً للماء الذي غمرها، المحلات كلها له، واحد لمتجره ويؤجّر الآخَرَيْن.
كل من وصل إلى المكان كان يسأل: إن شاء الله سليمة! إن شاء الله لم يكن أحد في الداخل؟ إن شاء الله فش إصابات؟ وعندما يسمع أن لا إصابات يقول «الحمدُ لله على سلامتكم، المال بتعوّض… بالمال ولا بالعيال».
كثيرون تقدموا من جاري محمد لمواساته ورفع معنوياته، بعضهم صافحه، والبعض عانقه وردّد الكلمات نفسها «الحمد لله على السّلامة، بالمال ولا بالعيال».
جاءت إحدى شقيقاته من مكان بعيد، اقتربت منه، وطبعت قبلة حانية على رأسه، ولم تقل سوى جملة واحدة «المصاري فدا صرمايتك خيّا».
طبيعي أن يدورَ الحديث عن سبب الحريق، هل هو تماسٌ كهربائي؟ هل توجد تأمينات تعوّض هذه الخسائر؟
لا توجد تأميناتّ! هنالك شروط كثيرة غير مستوفاة تطلبها شركات التأمينّ! أوّلاً ترخيص هذه المحلات، ثم منظومة أمان تعمل تلقائياً في حالة وقوع حريق، ثم إنّه واضح أنّ سبب الحريق هو عدم انتباه عامل اشتغل بمحاذاة المتجر، لم يتّخذ أيَّ إجراء لمنع الحريق، كان يقصّ قضبان حديد بواسطة قُرص الجَلخ الكهربائي الذي يصدرُ عنه شلال من الشّرر، ما أدى لاشتعال الأعشاب والأوراق الجافّة. في هذه الحالات، يجب أن يكون أنبوب مياه جاهزاً، أو تبليل الأعشاب بالماء احتياطاً قبل بدء العمل. فقد العامل السّيطرة، كان الله في عونه هو الآخر، خلال دقائق كانت النيران قد بدأت بالتهام الجدران المبنية من صفائح زنك مملوءة برغوة مادة (البولي يوريثان) القابلة للاشتعال. «قدّر الله وما شاء فعل».
في هكذا حوادث وخسارات، لا بدّ أن يحضر قِطاع غزّة وأهله، رغم أنّه لا مقارنات مع ذلك المكان الذي تحوّل إلى محرقة العَصر، من غير توقّف لكلّ شيء، للأرواح والأموال والمساكن والمتاجر ومواقع الذكريات، والمستشفيات والسّيارات والبنى التحتية، محطات تحلية المياه، المؤسسات والمراكز، حتى طوابير الوقوف لاستلام الطحين، وفوقها كلها محرقة للأخلاق والضّمائر وللمعايير والقِيم الإنسانية، ولمسمّيات كثيرة، آخرها مهزلة اقتراح مجرم الحرب جائزة نوبل للسّلام لشريكه ترامب، وكأنّهما شمس الدين التبريزي وجلال الدين الرومي! أيُّ مهزلة!
بعد حوالي ساعتين هدأت النيران، ولم يبق من المباني الثلاثة سوى هضبة من ألواح الزّنك السّوداء وقضبان الحديد التي التوت من شدّة الحرارة، يتصاعد منها الدّخان، ونارٌ تطلُّ بألسنة صغيرة، تبحث إذا ما بقي شيء ما لتلتهمه.
كثيرون من التّجار ومن الزبائن اتّصلوا بصديقي محمد ليقولوا له: «بالمال ولا بالعيال، لا تهتم، نحن في خدمتك، أي شيء تطلبه نحن جاهزون».
في ساحة منزل قريب، أقام أصدقاء وأقرباء وجيران من مختلف الأعمار اجتماعاً عفوياً، أكّدوا مراراً «بالمال ولا بالعيال»، وقرّروا «ابتداء من صباح الغد نبدأ بالعمل، كلُّ من يتقن مهنة ما، ولديه الوقت، فليتفضّل ليشارك»… «خلال أسبوع يجب أن يعود كلُّ شيء إلى ما كان عليه قبل الحريق».
كان جاري متماسكًا رغم خسارته التي تقدّر بمئات آلاف الدولارات، بل وكان يبتسم بين حين وآخر، تلك الابتسامة التي تعني الاستسلام التام للقدَر، ويحمد الله على سلامة الجميع.
انفضّ النّاس، وبقينا وحدنا، وحينئذ سالت دمعته! لم أنطق بكلمة، فقد فهمته جيّداً.
قال: «هل تعرف ما الذي أبكاني؟
قلت: تعبك وجدّك واجتهادك منذ سنين، ومصدر معيشتك أنت وأولادك.
فقال: صحيح الخسارة المادية كبيرة، ولكن الذي أسال دموعي هي المحبّة التي غمرني بها الناس، رجالاً ونساءً، عشرات من الشّبان لا أعرف أكثرهم، عانقوني ليخفّفوا عنّي، عشرات المهاتفات والرّسائل النّصية، الجميع أبدوا استعداداً لأيّ خدمة أو مساهمة بأي شيء، هذه المحبّة التي لم أكن أشعر بقوّتها وصدقها من قَبل، غلبتني، وهي التي أسالت دموعي.
www.deyaralnagab.com
|