أحدث الأخبار
الجمعة 06 حزيران/يونيو 2025
الموت جوعاً وعاراً!!
بقلم : سهيل كيوان ... 05.06.2025

لا شكَّ أنَّ كلَّ من يملك الحد الأدنى من القِيَم الإنسانية، يشعر بالقهر عندما يرى جموع الفلسطينيين متصارعة للحصول على وجبة طعام، أو كرتونة مساعدات غذائية. أكثرنا لا يحبُّ النظر إلى هذا المشهد، وعندما يراه على موقع ما، فإنّه يقلب الصّفحة، كي يحجب عن نفسه الشّعور بالعار والعجز. كيف تحوّل هؤلاء الناس الشّرفاء الصّابرون، الذين واجهوا الإبادة والفقد بالاحتساب، وتسليم أمرهم إلى الله، إلى متصارعين للحصول على الطحين! تشعر بالعار لتقصيرك وعجزك، ولعجز الأمّة العربية كلها، عن مدّ يد العون والمدد لضحايا همجية لم يسجّل التاريخ الحديث مثيلا لها.
هذه الصورة الوحشية التي سعت الصهيونية إلى إلصاقها بالفلسطيني، حاربها الفلسطينيون على مدار عقود، وحاولوا دائما إبراز الحقيقة بأنّهم ضحايا يطلبون حقوقهم وإنصافهم، وليسوا دعاة قتل وخراب، بل دعاة تعايش وسلام.
تجلّى هذا الدّفاع عن صورة الفلسطيني في المعاملة الإنسانية، التي أظهرتها المقاومة للأسرى والمحتجزين الإسرائيليين، وهذا بدا واضحا على ردود الأسرى خلال عملية إطلاق سراحهم وبعدها، لدرجة أنّ أحد هؤلاء الأسرى قبّل رأسيّ رجلين من رجال المقاومة، خلال عملية التبادل في شباط /فبراير الماضي، وهو مشهد غير مسبوق، رآه مئات الملايين عبر العالم، وهذا شكّل فخراً للمقاومة من جهة، وضربة إعلامية قوية استفزّت مشاعر حكومة الاحتلال الأشدّ تطرّفا، التي تعدّت الفاشية في وحشيتها بدرجات.
*قد ترتكب المقاومة، أية مقاومة، أخطاءً خلال مسيرتها للتحرّر من الاحتلال، وقد تكون أخطاء كارثية، ولكن الاحتلال هو أساس كلِّ الكوارث التي ما زالت تقع على شعبنا وشعوب المنطقة
عندما يجوع مئات الآلاف من البشر لفترة طويلة ويشعرون بخطر الفناء، فإن المحرّك الغريزي للبقاء يتغلّب على الاعتبارات الأخرى. تتضاءل مساحة التفكير، وتتراجع العواطف، وتختفي الرحمة، ويشعر الجائع قسراً بظلم العالم له، وتتراجع كل القيم المكتسبة التي راكمها الإنسان عبر آلاف السنين، مثل القيمة البسيطة، وهي الوقوف بالدّور من غير تدافع، أو السّماح لمن هو أضعف منك كامرأة حامل مثلاً، أو رجلٍ مُسنٍ أو لمريض أو حتى لإنسان عادي مُستعجل في أمره، بأن يتقدّم عليك في الطابور. هنالك نماذج كثيرة من المجاعات التي عرفتها البشرية لأسباب جفاف، أو أوبئة، منها أيرلندا وأوكرانيا والصين والبنغال وافريقيا، وخلال الحروب كما في أيام السّفر برلك (النّفير العام) في الحرب العالمية الأولى، التي صوّرها توفيق يوسف عواد في رواية «الرغيف»، كذلك حصار ستالينغراد خلال الحرب العالمية الثانية، وحصار تلِّ الزّعتر عام 1976 في الحرب الأهلية اللبنانية. في المجاعات أكل الناس الحيوانات المنزلية، والجِيف ولحاء وأوراق الشّجر والأعشاب، والأحذية المصنوعة من الجلد، وباعت بعض العائلات ممتلكاتها وحتى أطفالها، وهاجر من استطاع إلى الأمكنة التي ظنّ أن يجد فيها طعاماً. وتم إخفاء حالات وفاة أحد أبناء الأسرة للحصول على حصة المتوفى من طعام مقنّن، وانتشرت السرقات والنهب، وأخفى الناس الطعام عن أقرب الناس إليهم، بل إنهم في بعض الحالات أكلوا لحم البشر. ما يفعله الاحتلال حصار طويل وتجويع، إضافة لاحتمال القصف المفاجئ من طَرفه، أو من قبل عصابات يحميها ويسلّحها، وعملياً فإن فرصة الحصول على الطعام من المساعدات المعروضة غير مضمونة والناس في سباق مع الوقت.
لا ضمانة لنظام منهجي في الأسابيع المقبلة، لأنّ الوضع يزداد سوءا، ويمكن للاحتلال إطلاق الرصاص، أو القذائف ليس بهدف القتل وإشاعة الفوضى وإظهار عجز المقاومة عن السيطرة فقط، بل قد يكون للتّسلية. هذا ما قاله رئيس حزب الديمقراطيين المعارض يائير غولان، بأنّ الجنود يقتلون الأطفال في غزّة كهواية. أمام مشهد الصّراع للحصول على كرتونة المساعدات ينظر الصهيوني المُحتل بشماتة ويصف هؤلاء الناس بالمتوحّشين، وإذا كانوا متوحّشين فهذا يعني إخراجهم من دائرة المعايير الإنسانية، ويصبح الإضرار بهم وبممتلكاتهم وحتى قتلهم أمراً يمكن غضّ الطّرف عنه، أو استنكاره، بعبارة «غير مقبول» مثل علامة يكاد يكفي، التي كانت تسجّل في زماننا أيام الابتدائية. هذا المنطق الصهيوني هو منطق العرق الأبيض، الذي غزا أمريكا وقتل عشرات ملايين الهنود الحمر
«المتوحشين»، وهو منطق الأوروبيين في افريقيا ومختلف بقاع الأرض عندما استعمروها. اهتمّت الحركة الصهيونية منذ بدء صراعها للسّيطرة على فلسطين، بتصوير الفلسطيني كمتوحّش، وذلك لتبرير جريمتها بسلب أرضه ووطنه، مع إبقائه مواطنا من درجة ثالثة، وإمّا تهجيره بضغط مباشر أو غير مباشر، أو تبرير قتله أو أسره وسجنه لفترات طويلة، إذا قاوم. الهدف من تصوير الفلسطيني كمتوحّش، هم الصهاينة أنفسهم، خصوصاً الأجيال الصاعدة التي ستخدم في الجيش، والتي ستقوم بمهمة حماية الاستيطان وممارسته، بأن لا تأخذهم رأفة بهذا الفلسطيني لأنّه أقل من إنسان، وعليه فلا يعامل بالمعايير الإنسانية المعروفة، ثم إنّ هذه رسالة موجّهة إلى الفلسطيني والعربي نفسه، ليشعر بأنّه أقل درجات من الصّهيوني، وكثيراً ما يتحقّق هذا الشعور لدى ضعفاء نفوس، فيقرّون أنّ الصهيوني ابن الشّعب المختار أفضل منهم، وأنهم كعرب يستحقون ما يجري لهم من قتل وإذلال وسجن وتهجير.
ثم هي رسالة إلى العالم كلّه، كي يتفهّم ما تقوم به الصهيونية، فهذه ليست جرائم ضد بشر عاديين، يتألّمون عندما يجرحون، أو عندما يموت أحباءهم، بل هي ضد مجموعات دون البشر، وهذا في المحصّلة دفاع عن الحضارة في مواجهة الوحشية. على الرغم من الاحتجاجات الشّعبية في بعض الدّول الغربية وفي أمريكا، إلا أنّ المستويات الرّسمية ما زالت في غالبيتها تنظر إلى الضحايا الفلسطينيين على أنّهم أقلُّ قيمة من غيرهم، فكيف نفسّر السّكوت، أو التعبير باحتجاج سطحي جداً مثل، «إن ما يجري في قطاع غزّة غير مقبول؟»، تصوروا ماذا سيكون موقف أمريكا والدّول الأوروبية لو حوصرت مدينة يهودية ومُنع عن سكانها الطعام والشراب والدواء لأشهر، من دون أن نتحدّث عن القصف! لا ننسى وهذا واجبنا أن نذكّر بأنّ الأنظمة العربية، أسهمت في تعزيز الدّعاية الصهيونية، وذلك من خلال النّماذج التي قدمتها وتقدمها في تعاملها مع شعوبها، خصوصاً مع المعارضين السياسيين في بلدانها، فهي تصف بعضهم في كثير من الحالات بالإرهاب! كذلك من خلال تعامل هذه الأنظمة وردود أفعالها على الإبادة والتّهجير في قطاع غزّة، التي لا ترتقي إلى الحد الأدنى المطلوب أمام حدث مفصلي من تاريخ صراع مثل هذا.
كذلك يجب أن نذكّر بأنّ جزءا من الفلسطينيين أنفسهم، يحمّل الضحايا المسؤولية بأنّهم سبب الكوارث التي ينزلها الاحتلال بالناس، وهذا يزرع الفتنة بين الضحايا أنفسهم، ويخدم دعاية الاحتلال. قد ترتكب المقاومة، أية مقاومة، أخطاءً خلال مسيرتها للتحرّر من الاحتلال، وقد تكون أخطاء كارثية، ولكن في السّطر الأخير فإن الاحتلال هو أساس كلِّ الكوارث التي وقعت وما زالت تقع على شعبنا وشعوب المنطقة.

1