
الفَزعَة، من العادات القروية الجميلة.وهي تعني مدّ يد العون لمن يحتاجها، قد يكون هذا في جني محصول زراعي مثل الزّيتون، أو لإدخال مواد إلى مكان محمي كي لا يتلفها المطر، أو إنجاز عمل ما، قبل حلول الظلام.
قد تكون الفزعة لشقيقٍ أو قريبٍ أو جارٍ أو لابن البلد، تعرّض لاعتداء أو تورّط في مواجهة مع غرباء.
كان من واجب ابن البلد أن يفزع لابن بلده إذا تعرض أحدهم لاعتداء خارج البلدة، فالفزعة في مواجهة الغرباء واجبٌ، ومن لا يفعل لأي حجّة كانت يناله عارٌ، ويتعرض للتهكّم ويتّهم بالجبن.
كان الناس يدعون إلى فزعة لصبّ سطح بيت جديد، وذلك قبل المعدات الحديثة، كان صاحب البيت يدعو الجيران والأقرباء والأصدقاء والأنسباء «بدنا فزعكتم لصبّ السّطح بكرا الصُّبح إن شاء الله».
نظر القرويّون بعين الرضى لمن يفزَع لابن عمّه أو قريبه، فإذا فزعتَ ومرّ رجل مسنٌ وسألك: لماذا فزعت وما الذي أدخلك؟ تردُّ بأنّه ابن عمك أو ابن خالتك أو صديقك الذي كنت برفقته حين وقع الاعتداء، فيتفهّم الرّجل موقفك ويقدّره، فأنت قمت بواجبك ولست ملوماً في هذا.
افتخر العرب الذين يصفونهم بالجاهليين بقيم رفيعة، ومنها الفخرُ في إغاثة الملهوف.
وعن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنّه قال «علّموا أبناءكم لامية العرب، فإنها تعلّمهم مكارم الأخلاق». ومن مكارم الأخلاق نصرة المظلوم.
يقول طرفة بن العبد:
وكَرّي إذا نادى المُضافُ مُحنّباً
كسيد الوغا نبّهته المتورّد.
ويقول زهير بن أبي سلمى في مديح قومه:
إذا فزعوا طاروا إلى مُستغيثهم
طوال الرّماح لا ضعافٌ ولا عُزلُ.
قبل أيام تقدمت سفينة الحرية مادلين، ولكن الاحتلال قمعها، وطرد واعتقل طاقم المشاركين، وهي خطوة إعلامية مهمة جداً، رآها العالم كله، وكعادته ردّ الاحتلال بعدوانية. وهو ما فعله مع أسطول الحرية الذي بدأ نشاطه عام 2010 لكسر الحصار عن قطاع غزّة، وأشهر أحداثه ما وقع على سفينة مرمرة التركية، التي استشهد على متنها عشرة من المتضامين الأتراك، وكان قد شارك فيها مئات البرلمانيين والنشطاء والصحافيين من أربعين دولة.
فَزعةُ قافلة الصّمود الحالية، انطلقت من تونس في التاسع من الشّهر الجاري رغم عراقيل كثيرة، وقد انضمت إليها وفود من الجزائر والمغرب وموريتانيا وأخرى أجنبية.
دخلت فزعة الصمود ليبيا، بعد معاناة حدودية على الحدود التونسية الليبية، ولكنها استقبلت شعبيّاً بأبهى صور التعاطف والدّعم، وانضم إليها ليبيون في طريقهم إلى الحدود المصرية. القافلة سوف تدخل مصر، وسينضم إليها مصريون. الهدف هو الوصول إلى رفح لإدخال مساعدات إنسانية إلى المحاصرين الذين يتعرّضون إلى الإبادة.
الاحتلال حول قطاع غزة إلى مقبرة مفتوحة، حتى مراكز توزيع المساعدات جعلها مصائد للموت.
وقد شكّل الاحتلال الكاهاني عصابات من الفلسطينيين أنفسهم، مدعومين من دولة عربية بالعتاد والمال للقيام بدور قذر في نهب المساعدات وقتل الناس أثناء توجّههم إلى مراكز التوزيع لنشر الفوضى.
ما يجري في قطاع غزة هو تطبيق للنظرية الكاهانية التي تعمل على تطهير «أرض إسرائيل» من غير اليهود، وحسب النّظرية الأصولية التوراتية.
فزعة قافلة الصمود المغاربية تمثّل مشاعر الشّعوب العربية كلها تجاه ما يجري في فلسطين، فما من شعبٍ عربي إلا ويتألّم لما يجري لإخوانه، ويشاركهم في مشاعرهم هذه أحرارُ العالم.
هدف النظام الكاهاني واضح ومُعلن، هو الإبادة الجسدية لأكبر عدد ممكن من الناس، ومن ثم إرغام من يتبقى منهم على الهجرة.
هذا ما يمارس في الواقع ليس فقط في قطاع غزة، بل وفي الضّفة الغربية، وهي ترجمة لأيديولوجيا تؤمن بضرورة طرد العرب من فلسطين، لأنّ دولة إسرائيل يجب أن تكون خالية من الشّعوب الأخرى من غير اليهود. دولة إسرائيل كما يراها الكاهانيون تشمل أجزاءً من سيناء وسورية ولبنان وكلّ شرق الأردن، وتتوّج بإقامة الهيكل الثالث، وهذا يتطلّب بحسب العقيدة، إزالة المسجد الأقصى وليس احتلاله مناصفة، أو البناء إلى جانبه، بل هدمه وتطهير مكانه ثم بناء الهيكل من غير دنَس. العقيدة الكاهانية تعتبر كلّ ما هو غير يهودي في أرض إسرائيل وعلى جبل الهيكل دنساً.
بموازاة ما يجري في قطاع غزة، فإنّ الممارسة الكاهانية تتصاعد في الضفة الغربية، متمثّلة بمزيد من الاستيطان والاعتداءات على الناس ومحاصيلهم الزراعية وممتلكاتهم وطردهم من بيوتهم.
تطبيق النّظرية الكاهانية يتصاعد في النّقب داخل حدود دولة إسرائيل، حيث تهدم السّلطات يوميًا عشرات المنازل في القرى البدوية وتشرّد سكانها، في تضييق ممنهج، ليفضي في النهاية إلى التّهجير.
التهجير يهدّدُ أعداداً أكبر من تلك التي هجّرت عام النكبة الأولى، حيث بلغ عدد المهجّرين وقتها إلى 750 ألفاً، بينما يجري العمل الآن على تهجير ضعف هذا العدد وأكثر.
أكثر سكان قطاع غزة باتوا مهجّرين عن مناطق سكنهم، وإن كانوا في داخل القطاع، ولكن الغموض يحيق بمصيرهم، وهو ما يسمى ما بعد حماس.
أما الضحايا فالعدد أكبر بكثير من ضحايا عام النّكبة الأولى، وقد يصل إلى خمسة أضعاف عدد الشّهداء والجرحى. كذلك فإن عمليات الهدم لا تقل، بل تزيد عن ما حدث عام النكبة الأولى.
فزعة قافلة الصّمود تمثل الشّعوب العربية ومعها أحرار العالم، ولكن يا ترى، ما موقف الأنظمة؟ فبعضها عاقب متضامين مع فلسطين وشعبها، وبعضها يعتبر الفَزعة فوضى وتلقّي أوامر من جهات خارجية وتآمراً على الوحدة الوطنيّة، بل هو تآمر على الجيش والموارد الوطنية واعتداء على هيبة الدولة.
هنالك عربٌ فَزَعوا لأبناء عمومتهم الكاهانيين! عربٌ تخلّوا عن أشقّائهم وأعانوا أصحاب نظريات الإبادة على إخوانهم، وأكثرهم لم يفعلوا شيئاً لدعم محاكمة مجرمي الحرب، في الوقت الذي يدعمه أوروبيون ومن أمريكا اللاتينية وإفريقيا.
طبعاً، كاهانيو الاحتلال سوف يرفضون دخول مساعدات عن طريق معبر رفح البري، ولن يسمحوا لقافلة الصمود بأن تحقّق هدفها، لأنّ هذا سيكون نموذجاً لقدرة القوى المناصرة للفلسطينيين على التحرّك والتأثير وتحقيق إنجازات، هذا ما يتعارض مع سعي الكاهانية وبعض إخوانها العرب لإحباط أي جهد يعيد مشاعر الكرامة والغيرة القومية والدينية والإنسانية إلى شعوب المنطقة.
كيف سيتعامل النظام المصري مع هذه القافلة وإلى أي مدى؟ وما المسافة التي سوف يسمح لها بالاقتراب من المعبر! بعض إعلاميي النّظام المصري بدأوا بالتحريض على القافلة، وبدأوا في الأسطوانة العريقة، ويدعون إلى الحذر منها لأنّ هدفها إحراج مصر، وليس إحراج إسرائيل، فهل ستدخل «قافلة الصمود» إلى الإعلام المصري كحلقة من حلقات «المؤامرة» الطويلة ضد مصر.
مهما كانت النّتيجة، فالفزعة واجبة وضرورة ومباركة، ولا بدّ أن يكون لها تأثيرها وقيمتها، وكلنا أمل أن تنجح في تحقيق أهدافها المادية والمعنوية.
