
شنّت الطائرات الإسرائيلية، عصر الثلاثاء الماضي، غارة جوية موجّهة نحو مقر الوفد الفلسطيني المفاوض في العاصمة القطرية الدوحة. وجاء في البيانات، التي صدرت على الفور من مكتب بنيامين نتنياهو ومن وزير الأمن يسرائيل كاتس، أن الهدف هو قيادة حماس، ومن وصفتهم إسرائيل بمعارضي الصفقة. وبعد أن استبشرت القيادة الإسرائيلية ووسائل الإعلام العبرية «خيرا» بالنتيجة، تراجع «التفاؤل الحذر» تدريجيا إلى «تشاؤم مقيت»، بفشل الغارة في تحقيق هدفها الأوّل وهو اغتيال خليل الحية وزاهر جبارين ونزار عوض الله ومحمد درويش وغازي حمد وخالد مشعل وعزّت الرشق، وهي الأسماء التي وردت في تقرير موقع «واينت» التابع لصحيفة «يديعوت أحرونوت».
*إقامة تحالف دولي عربي لإنهاء الإبادة في غزة أكثر أهمية الآن من حراك الاعتراف بالدولة الفلسطينية، إذ لا يجوز إبقاء الجريح ينزف على الأرض من دون إسعاف
وتعويضا عما بان من فشل للعملية، بدأت تتردد عبارات أن الهجوم حقق أهدافا أخرى مثل، ترويع قيادة حماس بأنها مستهدفة في كل مكان توجد فيه وإجبارها على «الاختباء»، مثل قادة حماس غزة في أنفاق القطاع. ووفق ما جاء في التقارير الإعلامية الإسرائيلية استهدفت الغارة اجتماعا لقيادة الوفد المفاوض التابع لحماس، خصص لبحث مقترح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لمسار إنهاء الحرب وتبادل الأسرى. وإذا صحّت التسريبات بأن الاجتماع كان سيوافق على مقترح ترامب، أو على الأقل إبداء استعداد للتفاوض حوله، فقد يكون هدف الغارة هو قطع الطريق على فتح باب المفاوضات من جديد، من خلال عملية الاغتيال. ووفق هذا السيناريو فإن إسرائيل التي وافقت على مقترح ترامب، انطلاقا من أن حماس لن توافق، وحين رشح أنها قد توافق قامت إسرائيل بالاستهداف الإجرامي، حتى لا تتورّط في مفاوضات تشتت رغبتها في فرض مبتغاها، من خلال معادلة إما الاجتياح الشامل، أو الاستسلام الكامل، والمفاوضات قد «تخربط» هذه المعادلة.
وفي محاولة لإبعاد الشبهات عن الولايات المتحدة، أكّد نتنياهو في بيانه أن «العملية كانت عملية إسرائيلية مستقلة تماما. إسرائيل بادرت إليها، إسرائيل أدارتها، وإسرائيل تأخذ على عاتقها المسؤولية كاملة»، لكن صيغة البيان لا تساهم في دحض التفاهم المسبق مع إدارة ترامب، بل تزيد من الشكوك في ذلك، فلهجة الإنكار المسبق المبالغ فيها لأي تنسيق مع أي جهة خارجية يؤكّد ولا ينفي أن الولايات المتحدة كانت على علم مسبق بالعملية وبتفاصيلها، ولو كانت إسرائيل تعتقد أن هناك معارضة حازمة في إدارة ترامب لمثل هذه العملية لما أقدمت على تنفيذها. أكّدت مصادر عديدة أن الإدارة الأمريكية، ووكالة مخابرات الموساد الإسرائيلي وعدتا الشهر الماضي الدوحة بعدم التعرّض لقيادات حماس الموجودة في الأراضي القطرية. وجاء هذا التعهّد بعد تصريحات رئيس الأركان الإسرائيلي الميجر جنرال إيال زامير، الذي هدد باغتيال قيادات حماس في الخارج. على هذه الخلفية يمكن تفسير التسريبات المقصودة بأن الموساد عارض العملية، ولم يكن شريكا فيها، حفاظا على «مصداقيته» كشريك في المفاوضات وفي تنسيق العلاقات مع دول ليس لإسرائيل علاقات رسمية معها. كذلك دأب المسؤولون الأمريكيون وفي مقدمتهم ترامب على التأكيد المرة تلو الأخرى بأنهم عرفوا بالعملية في اللحظة الأخيرة، ووصل الأمر بترامب للادعاء بأن إسرائيل لم تبلغه وبأن الجيش الأمريكي لاحظ تحركا للطائرات الإسرائيلية، فأبلغ الرئيس الذي فحص الموضوع مع الإسرائيليين فعرف بالغارة وأبلغ بها القطريين ـ بعد فوات الأوان! المشكلة أن ترامب يعتقد أنه يمكن تصديق هذا السيناريو الخيالي، الذي لم يكن له هدف سوى إبعاد التهمة عن الإدارة الأمريكية بالمشاركة في انتهاك السيادة القطرية. وقد وعد ترامب بأنه مسؤول عن منع تكرار مثل هذا الانتهاك، ويبدو أن هذا الالتزام سيبقى ساري المفعول طالما لا نية لإسرائيل بالتكرار، وإن هي قررت غير ذلك فستجد أن ترامب سهل الاقناع حين يتعلّق الأمر بحليفه المدلل. لم تكن العملية وليدة قرار سريع أو متسرّع، وتندرج محاولة الاغتيال ضمن سياقات وتوجّهات إسرائيلية متناغمة ومتداخلة:
أولا، الاعتقاد بأن قتل القيادات يغيّر مجرى التطورات جوهريا في صالح إسرائيل، التي نفّذت المئات من اغتيالات القادة، ما جعل الاغتيال مركّبا مهما في الاستراتيجية الأمنية الإسرائيلية؛
ثانيا، كون المستهدفين في قطر قيادات سياسية ليس لها أي دور عسكري، أو أمني، لا يقلل من الاندفاع الإسرائيلي لقتلها. فالسياسة الإسرائيلية شبه الرسمية المتبعة منذ عقود هي «البوليتيسايد» – أي الإبادة السياسية، ومحو قيادات الصف الأول الفلسطينية، حتى لا تلعب دورا في مواجهة الاحتلال والمشروع الإسرائيلي الإجرامي والتوسّعي؛
ثالثا، اتخذت إسرائيل قرارا فور أحداث السابع من أكتوبر 2023، بالقضاء على جميع قادة حماس في أماكن وجودهم كافة، وأشار المسؤولون الإسرائيليون إلى أن توقيت التنفيذ سيكون «تبعا للتطورات والفرص والسياقات». وحين سئل هؤلاء المسؤولون «لماذا لا تقتلون قيادة حماس في قطر؟» أجابوا بسؤال «ومن سنفاوض حينها؟»، ويبدو أن إسرائيل لم تعد تسعى إلى التفاوض، وكما قال مسؤول أمريكي كبير «إسرائيل فشلت في اغتيال قادة حماس ونجحت في اغتيال مفاوضات الصفقة»؛
رابعا، يندرج الاستهداف في الدوحة ضمن حملة اغتيالات قادة حماس في غزة ولبنان ومواقع أخرى. ويندرج أيضا في إطار الغارات الإسرائيلية بعيدة المدى، التي وصلت إلى إيران واليمن، وكذلك هو حلقة إضافية في سلسلة الاغتيال الجماعي للقيادات، كما حدث في إيران ولبنان واليمن وغزة. وفي إطار هذه السياقات جرى التحضير للعملية منذ أشهر طويلة وهي جاهزة منذ مدّة بانتظار التوقيت الملائم؛
خامسا، كل شيء كان جاهزا للعملية، من حيث انسجامها مع التوجه العام، والقرار المبدئي، ومن حيث رسم الخطة المبدئية والتجهيز لها، وبقي «التوقيت المناسب». والنقاش الوحيد كان حول التوقيت، إذ حاولت القيادات الأمنية التأجيل إلى ما بعد انتهاء مدة إنذار ترامب نهاية الأسبوع. لكن نتنياهو أصر على التنفيذ الفوري، ليربط بعدها بين الغارة في الدوحة وعملية إطلاق النار في القدس، التي أسفرت عن مقتل ستة إسرائيليين. وهذا ربط واهٍ، إذ لا علاقة تنظيمية بين قادة حماس في الدوحة، والشابين اللذين نفّذا عملية القدس. ويبدو أن السبب الرئيسي للتوقيت هو «توفّر فرصة»، لاستهداف القيادة مجتمعة، والسعي لمراكمة إنجازات للإعلان لاحقا عن «النصر المطلق»، وربّما أراد نتنياهو التخلص من المفاوضين لإفشال المفاوضات، بالادعاء أنه لا يوجد مفاوض من الطرف الآخر.
تضع العملية العدوانية الإسرائيلية في الدوحة علامات استفهام حول مسار الحرب ومصير الصفقة، ويبدو حاليا أن المفاوضات للتوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى لمرحلة ما تعرقل، ويبدو أيضا أن الجيش الإسرائيلي لن يقدم على الاجتياح الشامل والجارف لمدينة غزة ريثما يتضح مصير مبادرة ترامب. لقد هزّ الاستهداف الإسرائيلي للسيادة القطرية ولقيادة حماس العملية التفاوضية، حيث أعلنت قطر عن تعليق وساطتها، من دون أن تلغيها، وأعلنت حماس عن استعدادها لمواصلة التفاوض حول صفقة تنهي الحرب. أمّا إسرائيل فهي تفاوض بمنطق العربدة والتهديد والقصف الوحشي والقتل والتدمير، وقد وجّه وزير الأمن الإسرائيلي إنذارا إلى قيادات حماس (التي يدعي أنه اغتالها!) بأن عليها أن تقبل بالشروط الإسرائيلية، وإلا فإنه سوف «يقضي عليها ويدمّر غزة». ويبدو أن استئناف المفاوضات أصبح قرارا أمريكيا، مع الأخذ بعين الاعتبار أن القرارات الأمريكية متأسرلة بالعادة، إلا حين يقرر ترامب أن يتمرد على نتنياهو.
حين تتحدث إسرائيل – نتنياهو عن «شرق أوسط» جديد فهي تعني بالضبط ما حدث في الدوحة، وتعني أن إسرائيل لها الحق بالتدخل العسكري حيثما تشاء، وحينما تبغي وكيفما تريد. وتنطلق إسرائيل في ممارسة أشكال مختلفة من العدوان وانتهاك سيادة الدول، من «شرعية أمريكية» تغنيها عن أي التزام بالشرعية الدولية وبالقانون الدولي. وتحاول القيادة الإسرائيلية فرض «نظام إقليمي جديد»، محوره الأساس أمن ومصالح الدولة الصهيونية، ومنطقه فرض الهيمنة بقوة السلاح الأمريكي.
لا يعقل أن يقف العرب عاجزين عن لجم الانفلات الإجرامي الإسرائيلي في غزّة والضفة ولبنان وسوريا واليمن والآن في قطر أيضا، هناك الكثير مما يمكن فعله لإجبار إسرائيل على وقف حرب الإبادة في غزة، التي لا تبقى في حدود غزة فقط، إن إقامة تحالف دولي عربي واسع لإنهاء الإبادة في غزة أكثر إلحاحا وأهمية في هذه اللحظة من حراك الاعتراف بالدولة الفلسطينية، إذ لا يجوز إبقاء الجريح ينزف على الأرض من دون إسعاف، وتعده ببيت جميل وآمن في المستقبل البعيد.
*كاتب وباحث فلسطيني
