
هناك حقيقة واحدة لا تحتاج إلى لجان تحقيق ولا مؤتمرات حوار وطني: سوريا، بعد كل ما جرى، ما زالت، كغيرها من الكيانات المسماة دولاً عربية، تعيش بعقلية ما قبل الدولة… وبكثير. نحن لا نتحدث عن خلل بسيط في الإدارة أو الفساد أو سوء التخطيط. نحن نتحدث عن مجتمع سياسي واجتماعي وثقافي وديني بأكمله يرفض ـ عن قصد ـ أن ينتقل إلى مرحلة الدولة، وكأنه مهووس بالبقاء في غابة الطوائف والمذاهب والأديان والأعراق والقوميات والعصابات والفصائل. من المؤلم أن نقرّ بأن سوريا، بعد أكثر من عقد من الدماء والخراب وقبله عقود من الحكم الشمولي، لم تقترب حتى من عتبة عقلية المواطنة. لا سلطة ولا معارضة، ولا مكوّن سياسي أو اجتماعي أو ديني، استطاع أن يتجاوز أنانياته العصبوية أو يضع مصلحة الوطن فوق مصالح الطائفة والعشيرة والحزب والفصيل. الجميع دون استثناء ما زالوا غارقين في جاهلية سياسية، حتى الكثير ممن ظنناهم «مثقفين».
هذه الذهنية المريضة ليست مجرد عثرة في طريق النهوض، بل هي العائق الأكبر أمام أي مستقبل مستقر. فما دامت العصبيات القاتلة تحكم العقول والقلوب، فلن يكون هناك دستور عادل، ولا مؤسسات مستقلة، ولا قضاء نزيه، ولا جيش وطني موحد، بل ستكون الساحة مفتوحة أمام صراعات لا تنتهي.
من المسؤول إلى المعارض، من زعيم الميليشيا إلى شيخ العشيرة أو الطائفة، من قائد الفصيل إلى المثقف المتخم بالشعارات الفارغة… الكل يسبح في مستنقع العصبيات المريضة. لا أحد يفكر كمواطن في دولة، بل كفرد من طائفة أو مذهب أو قبيلة أو حزب أو شبكة مصالح. عقلية «أنا ومن بعدي الطوفان» صارت عقيدة وطنية غير مكتوبة، لكن الجميع يحفظها عن ظهر قلب.
**مجتمع سياسي واجتماعي وثقافي وديني بأكمله يرفض ـ عن قصد ـ أن ينتقل إلى مرحلة الدولة، وكأنه مهووس بالبقاء في غابة الطوائف والمذاهب والأديان والأعراق
هذه العقلية ليست مجرد خلل يمكن إصلاحه بانتخابات أو دستور جديد. إنها فيروس فتاك يدمّر أي محاولة للنهضة قبل أن تولد. لأن الدولة، أي دولة، لا يمكن أن تقوم إذا كانت الهوية الطائفية أو الدينية أو العشائرية أو الفصائلية أهم من الهوية الوطنية. وما دامت هذه القاعدة تحكم العقول، والجميع يستغلها ويتاجر بها، فإن أي علم سيرفرف في سماء سوريا سيكون مجرّد خرقة ملوّنة فوق أنقاض.
وما نراه اليوم من اشتباكات وصراعات داخلية، رغم وحشيته، هو مجرد بروفة رديئة للجحيم القادم. اليوم، ما زالت هناك بقايا «خطوط حمراء» شكلية تمنع الانفجار الشامل. لكن حين تنهار تلك البقايا ـ وهي ستنهار عاجلاً أو آجلاً إذا لم تصحوا ـ ستشتعل الحروب بين المدن وداخلها، ثم بين الأحياء، ثم بين الشوارع، ثم داخل البيوت. حينها لن نرى حرباً بين «النظام» و«المعارضة»، بل سنرى حروباً أفقية وعمودية، طائفية وداخل طائفية ومذهبية ومناطقية، سياسية واقتصادية، وحتى عائلية. في الجحيم الحقيقي لا توجد مناطق آمنة، ولا «خطوط تماس» تحفظك، ولا عصابة أو طائفة تحميك. النار ستأكل الكل، وبالعدل التام هذه المرة. وما رأيناه في الساحل والسويداء كان ناقوس خطر مرعباً بكل المقاييس. إذاً نحن مازلنا في مرحلة المقبلات على وحشيتها وهمجيتها، إذا استمرت هذه العقلية المنحطة في حكم المشهد. حين ينهار ما تبقى من ضوابط ـ ولو شكلية ـ وتغيب أي مرجعية جامعة، ستتحول البلاد إلى ساحة حرب دائمة، وستصبح جرائم اليوم التي نراها على الشاشات مجرد ذكريات باهتة أمام حجم الفوضى والانهيار القادم. حينها سيتمنى الناس لو عادوا إلى هذه «الأيام السوداء» التي كانوا يظنونها قمة المأساة، وسيدركون ـ بعد فوات الأوان ـ أنهم كانوا يعيشون في نصف الجحيم، قبل أن يغرقوا في الجحيم الكامل.
والأغرب أن هذا الانهيار لن يكون نتيجة مؤامرة خارجية بحتة. نعم، سيأتي الغرب والشرق ليصطادوا في الماء العكر، لكن المادة الخام للفوضى هي إنتاج محلي 100٪، لأننا صنعناها بأيدينا كل يوم، وفرشنا الطريق بالدم والجهل والتعصب والطائفية. نحن الذين غذّينا العصبيات، نحن الذين فرّغنا فكرة الدولة من معناها، نحن الذين استبدلنا المواطنة بالولاء الأعمى، نحن الذين أبدعنا في صناعة الزعامات والمشيخات الورقية والمقدسات الوهمية. هذه العقلية هي التي ستقود سوريا إلى نقطة اللاعودة، إن لم يتم كسرها بوعي جمعي جديد، وإرادة صلبة لتأسيس دولة تحترم الإنسان قبل أي شيء آخر.
تذكروا هذه الجملة جيداً: «الأيام بيننا»… إلا إذا استخدمنا مكابحنا الطائفية والمذهبية والاجتماعية والدينية والعشائرية، واستخدمنا عقولنا، وحكّمنا ضمائرنا، وفكرنا كسوريين وليس كطوائف وأديان ومذاهب وعشائر وأفخاذ وملل ونحل. إني خيّرتكم فاختاروا!
