
قبل أسابيع قليلة، اهتز المشهد السياسي في نيبال على وقع حدث لم يكن في الحسبان. رئيس الوزراء، خادجا براساد شارما أولي، الذي وُصف يوماً بأنه «الزعيم الذي لا يمكن إزاحته»، قدم استقالته تحت ضغط احتجاجات عارمة قادها الشباب ضد الفساد والوضع الاقتصادي المتردي. هذه الاحتجاجات، التي أُطلق عليها اسم «احتجاجات الجيل زد»، لم تكن مجرد حدث محليّ عابر، بل كانت أحدث حلقة شاهدها الكوكب برمته، في سلسلة من التحركات الشبابية امتدت عبر الجنوب العالمي من جاكرتا إلى الرباط، مروراً بدكا وإسلام أباد، وصولاً إلى أنتاناناريفو ونيروبي.
ما نشهده اليوم ليس مجرد موجة غضب متفرقة، بل هو ظاهرة عالمية يقودها جيل وُلد في العصر الرقمي، وورث عالماً من الأزمات، ويبدو أنّه يرفض أن يقنع بدور المتفرج.
عدو مشترك: نخب فاسدة منفصلة عن الواقع
إن أول وأهم قاسم مشترك بين هذه الثورات الشبابية هو العدو الذي تواجهه: نخبة سياسية واقتصادية يُنظر إليها على أنها فاسدة، منفصلة عن هموم الناس، وتعمل فقط لخدمة مصالحها الضيقة. الحالة النيبالية تقدم نموذجاً صارخاً لهذا الواقع. فالقادة الماويون الذين حملوا السلاح يوماً باسم الفقراء والمهمشين، والذين «كانوا يرتدون الصنادل، عندما وصلوا إلى السلطة، أصبحوا الآن من أصحاب الملايين». هذه العبارة المؤلمة تلخص خيبة أمل شعب بأكمله، وهي خيبة أمل يشاركها شباب كينيا الذين يتظاهرون ضد ضرائب جديدة تفرضها حكومة لا ترى معاناتهم، وشباب باكستان الذين سئموا من الأسر السياسية التي تتوارث السلطة والثروة منذ عقود، وشباب المغرب الذين يستخدمون منصات التواصل الاجتماعي لفضح مظاهر الإثراء غير المشروع.
هذه النخب لم تفشل في تحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية فحسب، بل خانت الوعود التي قامت عليها دولهم. في نيبال، كانت الثورة الماوية تهدف إلى إنهاء التمييز والفقر، لكنها انتهت بفضيحة تلو الأخرى، من تهريب الذهب إلى المحسوبية. وفي العديد من الدول الأخرى، يرى الجيل (زد) أن الطبقة الحاكمة، سواء كانت منتخبة ديمقراطياً أو متسلطة، قد تخلت عن أي مشروع وطني حقيقي لصالح شبكات من المصالح الشخصية والزبائنية. الفساد لم يعد يرى كمجرد سرقة للمال العام، بل أصبح آلية لقتل الأحلام وتكريس اليأس، وهو ما يجعل مواجهته أولوية قصوى بالنسبة لجيل يرى مستقبله يُسرق أمام عينيه وليس لديه ما يخسره.
وقود الاحتجاج: اليأس
إذا كانت النخبة الفاسدة هي الهدف، فإن اليأس الاقتصادي هو الوقود الذي يغذي هذه الاحتجاجات. يعيش الجيل (زد) في ظل مفارقة قاسية: فهو الجيل الأكثر تعليماً وتواصلاً في التاريخ، ولكنه أيضاً الأكثر مواجهةً لانسداد الآفاق الاقتصادية. حالة نيبال توضح هذه الحقيقة بالأرقام: الناتج المحلي الإجمالي يعتمد بشكل أساسي (بنسبة الربع تقريباً) على تحويلات العاملين في الخارج، والتي تقارب 10 مليارات دولار سنوياً. هذا الرقم لا يعكس قوة الاقتصاد، بل يكشف عن مأساة وطنية: المورد الوحيد القابل للتصدير في البلاد هو «العمالة البشرية».
هذه الظاهرة لا تقتصر على نيبال. فمن بنغلاديش إلى مدغشقر، يواجه الشباب واقعاً مريراً من البطالة، وتدني الأجور، وغياب فرص العمل اللائقة التي تتناسب مع طموحاتهم ومؤهلاتهم. إنهم يرون بأعينهم كيف أن الطرق الجديدة والمشاريع الكبرى، التي يُفترض أن تجلب التنمية، تتحول إلى مجرد قنوات جديدة للفساد، حيث «كل تأخير وكل تجاوز في التكاليف يعني أن الوزير التالي يمكنه أخذ حصته»، كما يقول أحد الخبراء.
عندما يصبح الخيار الوحيد المتاح أمام الشباب هو الاقتراض بأسعار فائدة باهظة (تصل إلى 36% سنوياً في نيبال) من أجل السفر للعمل في مصنع في كوريا الجنوبية أو حقل نفط في الخليج، فإن الولاء للوطن يبدأ بالتآكل. الاحتجاج في الشارع يصبح صرخة ضد هذا المصير المحتوم، ومحاولة أخيرة لتغيير المعادلة قبل حزم الحقائب واللحاق بملايين المهاجرين الذين سبقوهم.
السلاح الرقمي: من الهاشتاغ إلى الميدان
ما يميز ربيع الجيل (زد) عن ثورات الأجيال السابقة هو الطريقة التي يتم بها التنظيم والتعبئة، فهذا الجيل لا يعرف العالم بدون إنترنت وهواتف ذكية. منصات مثل «تيك توك»، و»إكس» (تويتر سابقاً)، و»إنستغرام» ليست مجرد أدوات ترفيه، هي ساحاتهم العامة، ونوافذهم على الأمة، ومنابرهم الإعلامية، وأدواتهم التنظيمية. عندما فرضت حكومة نيبال حظراً على وسائل التواصل الاجتماعي، لم تكن تستهدف تطبيقاً ترفيهياً، بل كانت تحاول خنق شريان حياة الاحتجاجات، وإقفال النوافذ، وإحراق الضوء.
في كينيا، انتشر هاشتاغ #RejectFinanceBill2024 كالنار في الهشيم، محولاً نقاشاً تقنياً حول الميزانية إلى حركة شعبية واسعة. وفي إندونيسيا، استخدم الطلاب «الميمز» ومقاطع الفيديو القصيرة للسخرية من السياسيين وفضح تناقضاتهم، مما جعل رسالتهم تصل إلى الملايين بطريقة أسرع وأكثر تأثيراً من أي وسيلة إعلام تقليدية.
هذا السلاح الرقمي يضفي على الحراكات خصائص فريدة مقارنة بحراكات سابقة: كاللامركزية – غالباً ما تكون بلا قيادة هرمية واضحة، هلامية الطابع مما يجعل من الصعب على السلطات قمعها عبر اعتقال مجموعة من القادة -والسرعة – تنتشر الدعوات للتظاهر والمعلومات حول انتهاكات الشرطة في لحظات، مما يخلق زخماً يصعب السيطرة عليه -، والتقاطع العابر للحدود – يرى شباب المغرب ما يفعله شباب كينيا، ويتعلمون من تكتيكات نظرائهم في باكستان، مما يخلق شعوراً بالانتماء إلى حركة عالمية مشتركة.
آفاق متخمة بالتحديات
إن نجاح هذه الحراكات في إجبار رئيس وزراء على الاستقالة، كما حدث في نيبال، أو دفع حكومة لسحب مشروع قانون، كما رأينا في كينيا، هو انتصار بالغ الأهمية. إذ يثبت أن قوة الشارع، عندما ينظمها الجيل (زد)، لا يمكن تجاهلها. لقد نجحوا في كسر حاجز الخوف ووضعوا قضايا الفساد والعدالة الاجتماعية على رأس الأجندة.
لكن التحدي الأكبر يكمن في «اليوم التالي». فالتظاهر وإسقاط رمز من رموز الفساد شيء، وبناء بديل سياسي قادر على الحكم بشكل مختلف شيء آخر تماماً. فالطبيعة العفوية واللامركزية لهذه الحراكات قد تكون نقطة قوتها في مرحلة الاحتجاج، لكنها تصير نقطة ضعفها عند الحاجة إلى بلورة مشروع سياسي متكامل وبرنامج عمل واضح. ويحوم فوقها خطر الالتفاف والاحتواء: فالنخب القديمة بارعة في فن البقاء. قد تقدم تنازلات شكلية، وتنتظر انحسار موجة الغضب، ثم تعود لتمارس السياسات القديمة نفسها بوجوه جديدة. ناهيك عن أن الأنظمة عندما تشعر بخطر حقيقي، فإنها لن تتردد في استخدام العنف المفرط. مقتل 19 متظاهراً في نيبال وقبلهم 1400 في بنغلادش هو تذكير دموي بأن كلفة التغيير قد تكون باهظة جداً.
إن ما نشاهده على شاشاتنا ليس مجرد أعمال شغب متفرقة، بل هو بداية تحول جيلي عميق في السياسة العالمية. الجيل (زد)، مسلّحاً بالتواصل الرقمي وخيبة الأمل من وعود الأجيال السابقة، يقتحم مشهد السياسة بلا رادع. قد لا ينجح في كل معاركه، وحتماً سيتعرض لانتكاسات، لكنه غيّر قواعد اللعبة إلى الأبد. لقد أثبت أن صراخ حناجر ملايين الشباب، عندما يتحد عبر القارات مدفوعاً بالرغبة في الكرامة والحلم، بإمكانه أن يهز عروشاً كان يُعتقد أنها راسخة.
والسؤال المُشرع الآن على احتماليات كونٍ من الأجوبة، ليس إن كانوا سيغيرون الجنوب العالمي وحده، بل كيف ستنعكس تلك التغييرات بعد أن تهدأ أصوات الميادين على ملامح العالم برمته.
