أحدث الأخبار
السبت 02 آب/أغسطس 2025
الموسيقار العضوي" وأعمال زياد التي لن تموت!!
بقلم :  محمد عزام ... 02.08.2025

كأن تلك الخوارزميات "الأميركية" تشاطرنا عزاء منصوباً على مواقع التواصل الاجتماعي وفي قلوب محبي الراحل زياد الرحباني، وقد مسهم ورفاقهم الحزن، فما كان منها استغلالاً للحظة موته، إلا أن سيرت مقاطعه المصورة الواحد تلو الآخر ناشرة إياها بلا فاصل أو حائل لتصبح من بين الأكثر "Viral" أو رواجاً بلغتها البرمجية، رغم أن قيم بلادها التسليعية لكل وأي شيء ونموذج عملها الاستقطابي المحتفي بزبد الهراء، يتناقضان جذرياً مع كل ما اعتنقه وآمن به ويقوله "الرحباني الأخير"، لكنها وعن غير قصد وفي سياق تكريس وتقييد بقائنا ضمن فضائها الرقمي، أسهمت في أكبر عملية نشر مكثفة لأفكار وإبداع وإرث الفنان المشتبك مع الشأن العام مقدماً مبادئه على مصالحه بل حتى على حياته.
إنها رمية من غير رام، فنموذج زياد الثري بأبعاده الفكرية وتقاطعاتها الآنية وإنجازاته الموسيقية، يحتاج إلى إعادة التذكير به وتكراره على الآذان والقلوب، ليس من أجل جمهوره، فهؤلاء كانوا محظوظين بمعاصرته والتفاعل معه، ومضى من عمرهم أكثر مما بقي لذا ارتباطهم به يظل مشدوداً بـ"النوستالجيا" أو الحنين إلى ماض ثقافي أكثر ثراء وازدهاراً، ومع الأسف لم يعد متاحاً لما يسمى بالجيل زد وما بعده، أي هؤلاء الأكثر استهدافاً بتسطيح وتغييب وعيهم عمداً أو جراء الأوضاع السائدة اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً، فتحرمهم من حالة فنية صارت نادرة مثل زياد وما يجسده من رؤية وانحياز لقضايا "من يعيشون على هوامش العالم والحضارة والمجتمع، أي المخوّلون لرؤية الحقائق المُرّة"، بتعبير الروائي الروماني قسطنطين فيرجيل.
هؤلاء من اختارهم الموسيقار الراحل، رغم كونه ابناً "للمتن"، متمرداً على كل ما أحاط به من طبقية وطائفية وشوفينية، مكرساً فضاء موسيقياً بديلاً ابتدعه ناقلاً صوتهم ومعبراً عن آلامهم وممثلاً لهم ضمن حيز المجال العام بعد إقصائهم منه، معيداً الاعتبار إلى دور "الفنان المثقف" فأضحى محل إجماع شعبي لم يتراجع رغم أفول زمن تياره السياسي، إذ كان إبداعه الموسيقي متجدداً فحمل نموذجه عابراً به الطوائف والأديان والدول، خاصة أن زياد تجرد من كل ما يغبش الرؤية، لذا صدقه الجمهور فقد كانت بصيرته أكثر وضوحاً وضميره أكثر نقاء، ومنخرطاً بشكل مباشر في الدفاع عنه ساعياً لتغيير الواقع الاجتماعي والسياسي بمزيج من السخرية السياسية والموسيقى الشرقية التقليدية والغربية الحديثة، وملتزماً بمحاولة تغييرية من الأسفل، ما يجعله منه ليس موسيقاراً فقط، وإنما يجوز وصفه بـ"المثقف العضوي" حسب التعبير الغرامشي.
بالتأكيد لم يكن زياد جزءاً من أي نظام يسعى لممارسة الهيمنة الثقافية وربما كان من حظه وحظنا أن وجد نفسه وسط الحالة اللبنانية بانقساماتها وتوازناتها، فمثله لا تحتمله الأنظمة السلطوية الاستبدادية إذ لا تترك خرم إبره يتنفس المجتمع من خلاله، خاصة في مجال الفن الذي لا بد أن يدار ويسيطر عليه باعتباره أحد أدوات الضبط تخديراً للجمهور أو إلهاء وحشداً وتعبئة وتوظيفاً له ضمن صفوف السلطة، وهو ضد ما يمثله زياد وما نافح عنه طوال عمره، لذا استلهاماً من مفهوم أنطونيو غرامشي يمكن وصف زياد بـ"الموسيقار العضوي"، فقد كان حراً في رسم صورة مغايرة لمجتمعه خالفت التيار السائد، وكان والداه من بين من أرسوا دعائم ما وصفه هو بـ"لبنان الخيالي"، بينما اهتم بكشف تناقضات "لبنان الحقيقي" عاكساً همومه وتطلعاته من خلال الموسيقى، مسهماً في تشكيل وعيه، ومعبراً عن تعدده الثري.
أي أن موسيقاه ليست وسيلة للترفيه فقط وبالطبع يحق لمن يراها كذلك ألا ينازعه أحد في رؤيته، وهذه جدلية لا تنتهي هل الفن من أجل الفن كما تقول النظرية من أنه يجب تحريره من أي قيمة باستثناء الجمال، أي أنه لا بد أن يكون مجرداً من أي حمولات سياسية أو فكریة، أو فلسفية أو دينية، بما يخلصه من النفعیة كما يرى معتنقوها أم أن دور الفن هو تغيير الواقع عبر تحفيز التفكير النقدي وتعزيز الوعي الاجتماعي والانحياز إلى موقف أخلاقي وسياسي ينصر به البسطاء ضد "الزعما"، كما كان زياد ماضياً عبر طريق أصر على المشي فيه بالرغم من آلامه الشخصية التي تظهر في المقاطع المنتشرة، وبعضها حتى ظهر على وجهه الساخر بالرغم من كل ملامح المرارات البادية عليه، كأن أمله خاب في مدينة خائبة وما أضيق العيش لولا فسحة الأمل! فكيف إذا اجتمعت الخيبات الشخصية مع انتكاسات ومآس أحاطت بكل ما آمن به، ولعله على هذه الأرض لم يعد لدى زياد ما يستحق الحياة أو كما قال محمود درويش في جداريته: أنا وحيد، لا شيء يوجِعني على باب القيامةِ، لا الزمان ولا العواطف. لا أحِسٌ بخفةِ الأشياء أو ثِقلِ الهواجس. لم أجد أحداً لأسأل: أين أيْني الآن؟ أَين مدينةُ الموتى، وأَين أَنا؟ فلا عَدَمٌ هنا في اللا هنا … في اللازمان.
"أبو الزوز"، كما كان يناديه المقربون منه، جاء إلى الحياة ورحل عنها بريئاً مثل النبات والوصف للشاعر سيد حجاب، منحازاً إلى الجماهير، ومخاصماً النخب، لكن نموذجه ينقرض، والمطلوب اليوم فن بلا موقف وأعمال بلا دسم، يقدمها أنصاف الموهوبين أو حتى من بلا موهبة وهؤلاء لا انتماء لديهم إلا لمصالحهم الشخصية أو النظام الذي يسبحون بحمده، لذلك أعمالهم سرعان ما تذهب جفاء، بينما بالتأكيد إرث زياد ماكث في الأرض.

*المصدر : العربي الجديد
1