أحدث الأخبار
الأربعاء 17 كانون أول/ديسمبر 2025
المنظور الأول والألياف الضوئية... كيف غيّرت المسيّرات تكتيكات الحرب الروسية الأوكرانية؟
بقلم :  رامي القليوبي ... 17.12.2025

- كان فجر الأول من مايو/أيار الماضي مختلفاً، لم يحمل بين أنفاسه هدوءاً اعتادت عليه أسرة الأربعيني الروسي مكسيم، إذ استيقظت فجراً على دويّ ارتجّت له جدران المنزل الكائن في مدينة تولا الواقعة على بعد 200 كيلومتر جنوب موسكو.وما إن تأكد من سلامة زوجته ونجله، حتى أسرع إلى فناء المنزل، ليصُدم بحطام مسيّرة أوكرانية دمّرت سيارته، فيما أسفر الاهتزاز عن تحطم زجاج نوافذ البيت. يروي مكسيم الذي فضّل حجب اسمه الكامل لاعتبارات أمنية، تفاصيل يوم لم يمح من ذاكرته بأدق أحداثه، قائلاً لـ"العربي الجديد": "تولا مدينة روسية رائدة في مجال إنتاج الأسلحة، ولا يفصل بين منزلي وأحد المصانع الحربية سوى عدة كيلومترات، ويبدو أن المسيّرة كانت متجهة إليه، ولكنها سقطت قبل وصولها إلى وجهتها. صحيح أن بلدية المدينة تكفلت بتحمل نفقات إصلاح المنازل، ولكن سيارتي لا تزال غير صالحة للاستخدام، وما زلت أطالب بتصليحها. ولكن الأهم أن أفراد عائلتي لم يصابوا بأذى".
تغيير في النظريات العسكرية
تحولت المسيّرات إلى الأداة الرئيسية في الحرب الروسية الأوكرانية المتواصلة منذ أكثر من ثلاث سنوات ونصف السنة بلا انفراجة في الأفق، إذ تتعرض مختلف المناطق الروسية والأوكرانية لهجمات يومية بوابل من المسيّرات، وطاولت هذه الهجمات في عام 2023، بعض رموز هيبة الدولة الروسية، بما فيها الكرملين وحي المال والأعمال "موسكو سيتي" واجهة روسيا الرأسمالية ما بعد السوفييتية، وأخيراً مطارات عدّة تحتضن قاذفات استراتيجية روسية مطلع الصيف المنتهي بواسطة مسيّرات منظور الشخص الأول FPV. وتتميز مسيّرة منظور الشخص الأول بأنها تتيح لمشغّلها التحكم فيها وكأنه جالس في موقع الطيار، ورؤية الصورة المنقولة عبر الكاميرا المزودة بها إلى نظارة خاصة يرتديها المشغل، وفق نبذة تعريفية بموقع مشروع "كاسبيرسكي المضاد للمسيّرات" التابع لـ"مختبر كاسبيرسكي" الروسي للأمن السيبراني، وكلها تطورات يرصدها رئيس قسم العلوم السياسية والاجتماعية في جامعة بليخانوف الاقتصادية الروسية، أندريه كوشكين، معتبرا أن تجربة استخدام المسيّرات في الحرب الروسية الأوكرانية ستغيّر النظريات العسكرية في القرن الـ 21، من جهة تضمينها موادّ خاصة باستهداف مراكز قيادة المسيّرات مقابل تراجع دور المشاة.
ويوضح كوشكين الذي خدم لثلاثة عقود في الجيش السوفييتي والروسي ويحمل رتبة عقيد احتياط، أن المسيّرات بمثابة نقلة تكنولوجية في حروب القرن الـ 21 وتقلص أهمية القوات التقليدية، قائلاً لـ"العربي الجديد": "لم نعد نشهد في أوكرانيا معارك دبابات، بعد أن أحدثت المسيّرات تغييراً لتكتيكات القتال، وحلت فعلياً محلّ قوات المدفعية والأفراد على خطوط التماس، إذ أصبح العسكريون يجلسون أمام أجهزة الحاسوب بنقاط القيادة وكأنهم يلعبون ألعاب الفيديو مع الفارق أن دماراً حقيقياً يحدث على الأرض".
أحدثت المسيّرات تغييراً لتكتيكات القتال وحلّت فعلياً محلّ قوات المدفعية والأفراد
وفي حال استمرار تنامي دور المسيّرات في الحروب، كما يخلص كوشكين، فهذا سيعني أن "طلاب الكليات الحربية سيتعلمون قريباً في مادة النظرية العسكرية أن النصر في الحرب يتطلّب تدمير مراكز التحكم في المسيّرات التابعة للعدو".
وفي وقت برزت فيه المسيّرات بوصفها سلاحاً فعّالاً أثناء الحرب الأرمينية الأذربيجانية في عام 2020، يقلل من أهمية المزاعم أن المسيّرات حسمت الوضع لصالح أذربيجان أثناء حربها في إقليم ناغورنو كاراباخ التي استمرت لـ 44 يوماً، مضيفاً: "ساهمت مسيّرات بيرقدار التركية في تعجيل انتصار الطرف الذي كان متفوقاً أصلاً في أرض المعركة، ولكنّنا لا نسمع عنها كثيراً في أوكرانيا، ربما نظراً لكونها قصيرة المدى بلا فاعلية كبيرة في بلد ذي مساحة جغرافية شاسعة، وربما لضغوط ما تمارسها أنقرة على كييف لعدم استخدام هذه المسيّرات ضد القوات الروسية".
وكانت شركة بيرقدار التركية المصنعة للمسيّرات قد شرعت في بداية العام الماضي، بإنشاء مصنع لها في ضواحي كييف بطاقة إنتاجية 120 مسيّرة سنوياً، إلّا أن السفير الأوكراني لدى تركيا، فاسيلي بوندار، أكد في وقت لاحق أن المصنع لن يجري تشغيله بكامل طاقته إلّا بعد انتهاء أعمال القتال مع روسيا، خاصة أن المصنع الجاري إنشاؤه، تعرض لضربات روسية مرات عدّة آخرها في نهاية أغسطس/آب الماضي.
الارتقاء بدقة العمليات
من قلب تجربته وخبرته العسكرية، يرى المحارب الروسي القديم الذي شارك في أعمال القتال في أوكرانيا والمدون الحربي على "تليغرام"، سفياتوسلاف غوليكوف، أن المسيّرات تؤدي دوراً مهماً في منظومة الاستطلاع والمراقبة بالنسبة إلى طرفَي النزاع الروسي الأوكراني، من جهة الارتقاء بفاعلية نظم الإصابة النارية للمدفعية وأدوات تدقيق عمليات إطلاق النار على أهداف لا يمكن رؤيتها من الأرض.
120 مسيّرة سنوياً الطاقة الإنتاجية لمصنع "بيرقدار" التركية في ضواحي كييف
ويقول غوليكوف البالغ عدد متابعي قناته أكثر من 60 ألفاً، في حديث لـ"العربي الجديد": "أدت المسيّرات الصغيرة بعد دمجها ضمن منظومة التحكم القتالي دوراً كبيراً في منظومة الاستطلاع والمراقبة من جهة خلق حالة من الشفافية بساحة المعركة، والارتقاء بفاعلية نظم الإصابة الناريّة للمدفعية وأدوات تدقيق عمليات إطلاق النار بنظام الزمن الحقيقي على الأهداف التي لا يمكن رؤيتها من الأرض".
وحول تأثير الاعتماد على المسيّرات على مجرى النزاع الروسي الأوكراني، يضيف: "اضطر الجانبان للاعتماد على تكتيك التحرك ضمن مجموعات قتالية صغيرة نظراً لسهولة رصد التجمعات الكبرى وإصابتها بواسطة المسيّرات المخصّصة لإلقاء القنابل. يضاف إلى ذلك أن لوجستيات التموين في مناطق الأعمال التكتيكية أصبحت هي الأخرى عرضة لضربات المسيّرات، ما يضطر الجانبين للاعتماد على مجموعات صغيرة أو الدراجات النارية لإيصال المؤن".
الألياف الضوئية تمنع التشويش
أثناء تجوله بإحدى الغابات في المناطق المتاخمة بالجبهة، فوجئ الصحافي المتخصّص في الشأن الأوكراني ألكسندر تشالينكو، بحبال بيضاء مشتبكة بقمم الأشجار جعلته يظن أولاً أن بصره يخدعه. إلّا أنه أدرك بعد دقائق أن تلك هي الألياف الضوئية التي تتركها وراءها المسيّرات في ظل تزايد اعتماد روسيا وأوكرانيا على مسيّرات الألياف الضوئية، نظراً لتعذر إسقاطها بوسائل التشويش والحرب الإلكترونية، فيجري نقل البيانات كافّة عبر حبل مشدود بين جهاز التحكم والمسيّرة من دون استخدام أي أمواج أو اتصال الإنترنت، وسط انتشار صور للألياف الضوئية مشدودة في قمم الأشجار بغابات شرق أوكرانيا، على المواقع الروسية للتواصل الاجتماعي.
ويقول تشالينكو الذي يقيم في موسكو وزار منطقة القتال مرات عدّة وترجع أصوله إلى مدينة دونيتسك شرقي أوكرانيا، لـ"العربي الجديد": "الألياف الضوئية ليست اختراعاً جديداً، ولكن الابتكار يكمن في استخدامها لربط المسيّرات بمراكز التحكم لحمايتها من وسائل التشويش، كما تتميّز هذه الألياف بدرجة عالية من المتانة إلى حدّ أنها لا تنقطع حتى بعد السقوط على فروع الأشجار، وفي بعض الغابات باتت قمم الأشجار كلها مغطاة بالألياف".
وتعليقاً على ما شهده تشالينكو في غابات شرق أوكرانيا، يوضح الخبير الصناعي الروسي المستقل، ليونيد خازانوف، أن الألياف الضوئية عبارة عن بلاستيك شفاف ينتقل في المرحلة الراهنة استخدامه من القطاع المدني إلى التصنيع الحربي، ما يتيح نقل البيانات بواسطة موجات ضوئية وإصدار أوامر للمسيّرات دون أن يستطيع اعتراضها أو التشويش عليها أحد.
ويقول خازانوف الذي عمل محللاً في مؤسسات صناعية روسية عدّة، لـ"العربي الجديد": "الألياف الضوئية هي، في الواقع، أسلاك مصنوعة من البلاستيك الشفاف يجري من خلالها نقل البيانات بواسطة موجات ضوئية وإصدار الأوامر من المشغل إلى المسيّرة بشأن المناورات المراد إجراؤها. الخرطوشة المودعة بها الأسلاك يمكن إما تركيبها بالجزء الخلفي من المسيّرة، وإما تركها على الأرض".
مدى لا يتجاوز طول السلك
في معرض حديثه حول مزايا مسيّرات الألياف الضوئية وسلبياتها، يضيف خازانوف أن "مثل هذه المسيّرات صامدة في وجه التشويش الإلكتروني، إذ لا يمكن اختراقها، ما يشكل نقطة قوة روسية بمواجهة القوات المسلحة الأوكرانية، ولكن في الوقت نفسه مداها لا يتجاوز طول السلك" البالغ ما يصل إلى 20 كيلومتراً، وفق بيانات وزارة الدفاع الروسية.
وبدوره، يتحدث كوشكين عن مزايا الألياف الضوئية وسلبياتها، قائلاً: "من ناحية، تتيح الألياف الضوئية تأمين المسيّرات من وسائل التشويش والحرب الإلكترونية، ولكنها لا تسمح من ناحية أخرى بزيادة مدى المسيّرات الذي بات يقتصر على طول حبل الألياف الضوئية، وإلا لكان للمسيّرات أن تحقق بمفردها نصراً في الحروب".
وفي معرض إجابته عن السؤال ذاته، يقول غوليكوف: "لا تتعرض الألياف الضوئية لمفعول وسائل الحرب الإلكترونية، ولا يمكن اختراق التحكم في المسيّرة وسرقة البيانات منها، كما يمكنها مواصلة أداء مهامها في ظروف الوضع غير المواتي للترددات. ولما كانت مسيّرات الألياف الضوئية لا تصدر أي أشعة، يكاد رصدها يكون مستحيلاً، ناهيك عن الجودة الفائقة للصور المنقولة بصرف النظر عن المسافة والدقة العالية لإصابة الأهداف. لكن في الوقت نفسه، تقلل الألياف الضوئية من مدى المسيّرات وحمولتها وقدرتها على المناورة، مقابل زيادة مخاطر انقطاع الألياف رغم متانتها".
هنا يلفت المحلل في مركز الاتصال الاستراتيجي والأمن المعلوماتي في كييف، مكسيم يالي، إلى أن فاعلية مسيرات الألياف الضوئية تقتصر على المناطق المكشوفة الخالية من الغابات، قائلاً في إفادة لـ"العربي الجديد": "مسيرات الألياف الضوئية فعالة نسبياً فقط، إذ إن الأشجار وفروعها تؤثر سلباً في أدائها، ما يحول دون استخدامها لمطاردة الأهداف إلا في المناطق المكشوفة، حيث يستخدمها الجانبان الروسي والأوكراني بفاعلية "، مضيفاً أن وظيفتها القصف بشكل أساس.
بالإضافة إلى ما سبق يوضح دوغ وير، مدير مرصد الصراع والبيئة الذي يتخذ من المملكة المتحدة مقراً له، أن ثمة مخاطر تترتب على كثرة استخدام مسيرات الألياف الضوئية، إذ تشكل عقبة في مواجهة من يعملون على إزالة الألغام، وتلوث التربة، وتهدد البيئة لا سيما الحياة البرية، حيث تصبح مصيدة قد تتشابك فيها الحيوانات.
ويقول وير لـ"العربي الجديد": "المخاطر البيئية المتعلقة باستخدام مسيرات الألياف الضوئية جديدة ولم تدرس بشكل مفصل بعد، ولكننا نحذر من خطرها وعرقلة عملية إزالة الألغام التي تتطلب أن يتحرك الأفراد بحرية من دون عقبات، وأعمال إطفاء الحرائق وحماية البيئة في المناطق الأكثر تضرراً بالخطوط الأمامية".

*المصدر : العربي الجديد
1