
*كتب ت بهاء طباسي...لم يكن الصياد علي العمودي، البالغ من العمر خمسة وعشرين عاماً، يتوقع أن تتحول «حسكة المجداف» الصغيرة التي كان يستخدمها للتنزه مع أصدقائه على الشاطئ، إلى مركبِ عملِه الوحيد بعد أن التهمت الحرب كل ما كان يمتلكه من أدوات رزقه. في صباح رمادي واجه فيه البحرُ صمتاً عميقاً، وقف علي يدفع مركبه الخفيف نحو المياه، وهو يتمتم: «لم يبق لنا إلا هذه الحسكات، هذه ليست مراكب صيد، لكنها كل ما تبقّى بعد أن دُمِّرت المراكب الكبيرة والمجهزة».
بداية الغياب
كان البحر في ذلك اليوم أقرب إلى مسرح واسع لغياب ثقيل. الأمواج تهبط ببطء على الرمال، والهواء يجر خلفه رائحة المراكب المحترقة التي صارت جزءًا من ذاكرة الساحل لا تُمحى. يقول العمودي لـ»القدس العربي»: «هذه الفترة انتقالية للصيادين، نحن لا نعمل على مراكبنا، بل على مراكب سياحية قديمة، حوّلناها بالقوة إلى حسكات صيد. لا يوجد لدينا أي بديل، فالمراكب كلها دُمِّرت، وغُرف التخزين والمستودعات سُوِّيت بالأرض».بينما يحاول علي تثبيت شباكه المتآكلة، يبتسم بحزن وهو يضيف: «حال الصياد أصبح صفراً، حَرفياً صفراً. عشرون في المئة فقط من الصيادين يعملون اليوم على هذه المراكب الصغيرة التي كانت تُستخدم للتنزه، أما البقية فمتوقفون عن العمل تماماً… هذه ليست حياة، ونحن نعيشها فقط بانتظار التعويض أو الفَرَج».في اللحظة ذاتها، لا ينفصل الحديث عن مشهد الحرب الطويلة التي امتدت لعامين كاملين، تسببت خلالها الضربات في إبادة شبه تامة لقطاع الصيد، وهو القطاع الذي كان حتى وقت قريب ثاني أهم مصدر إنتاج غذائي في غزة بعد الزراعة. وبالرغم من مرور نحو شهر ونصف الشهر على وقف إطلاق النار، فإن المشكلة لم تنتهِ.
في مقدمة هذا الواقع المرهق، يتحدث العمودي بوضوح: «حتى لو فتحوا البحر غداً، لا يوجد لدينا معدات كي نخوضه، لا محركات، ولا شباك، ولا أجهزة، ولا مراكب. هذه الحسكات بالكاد تذهب مسافة كيلومترين إلى الداخل، ولا تصلح للصيد الحقيقي».
بحر في الذاكرة
مع توقف العمودي قليلاً للتحقق من اتجاه الريح، بدا كأنه يفتش عن بقايا حياة كان يعيشها قبل الحرب، حين كان يعود محمّلًا بعشرات الكيلوغرامات من السمك، ويضع جزءًا منها لعائلته. يقول: «اليوم، لو اصطدنا وجبة سمك واحدة نأكلها مع الأطفال نعدّ أنفسنا محظوظين. هذا ليس صيداً، هذا تمديد للبقاء».تلتقط عيناه الأفق قبل أن يضيف بنبرة أكثر قوة: «نطالب الوفد المفاوض بأن يضع الصيادين على طاولة المحادثات. نحن شريحة كبيرة دُمّرت بالكامل. نريد إدخال المعدات والأدوات اللازمة كي نعود للعمل. من دون ذلك لن يتغير شيء، حتى لو أعلنوا أن البحر مفتوح».كلماته تحمل الكثير من الإحباط، لكنها تحمل أيضاً واحدة من أعقد الحقائق التي تتكرر على ألسنة الصيادين جميعاً: المشكلة اليوم لم تعد فقط في الحرب، بل في ما تركته من فجوة يصعب ردمها.
انكسار المراكب
في مشهد آخر من سواحل غزة، يصف زكريا بكر، رئيسُ نقابة العاملين في الصيد والإنتاج البحري ومسؤولُ لجان الصيادين، حجمَ الدمار بكلمات لا تخلو من الصدمة: «قطاع الصيد أُبيد بشكل نهائي. أكثر من خمسة وتسعين في المئة من ممتلكات الصيادين دُمّرت. الاحتلال دمّر أكثر من ألف مركب بمختلف أحجامها، ولم يُبقِ قارباً واحداً صالحاً للإبحار، كما دمّر غرف الصيادين ومخازنهم في جميع الموانئ».يسترسل بكر في الحديث كمن يحصي وجعاً لا ينتهي: «ميناء غزة استُهدف بشكل مركّز، وكذلك موانئ الصيد الخمسة من الشمال إلى الجنوب. حتى المناطق التي لم يكن فيها أثر واضح لقطاع الصيد دُمّرت بالكامل. نحن نتحدث عن عملية تدمير شاملة، عن حرب ممنهجة على هذا القطاع الحيوي».ويتابع لـ«القدس العربي»: «لم يكتف الاحتلال بتدمير المراكب، بل دمّر كل ما يتعلق بها. مصانع الثلج، حسبة السمك، سوق الدلالة، محطات الطاقة، كل شيء طالته النار. نحن أمام أكبر عملية استهداف لقطاع إنتاجي منذ سنوات طويلة، قطاع كان يؤمّن الغذاء لأكثر من مليوني إنسان».ويردف بكر بصوت ثقيل: «استُشهد أكثر من 230 صياداً، 65 منهم استشهدوا داخل البحر أثناء محاولتهم ركوب قوارب صغيرة. ما جرى ليس مجرد حرب، بل عملية اجتثاث لقطاع كامل».على بعد أمتار قليلة من مكان عمل علي العمودي، يقف الصياد حسام بكر، وهو يمسح بقايا الرمل عن شباكه التي لم تعد صالحة إلا لاستعمال محدود. يروي حسام قصته بصوت مرتعش: «لا يوجد أي أمان لنا، حتى بعد انتهاء الحرب. كل يوم نتعرض لإطلاق نار. بالأمس فقط جرى اعتقال صيادين، وأُطلقت النيران علينا».يتوقف لثانية، ثم يضيف لـ»القدس العربي»: «أولادي كانوا على الشاطئ عندما حاصرهم زورق إسرائيلي. لو لم تتدخل العناية الإلهية لكنت فقدتهم. تركوهم ثم اتجهوا لاعتقال صيادين آخرين. هذا النوع من الرعب لا يمكن وصفه».ومع أن حسام لم يعد يغامر بالدخول إلى البحر كما كان يفعل سابقاً، فإن الخطر يلاحقه حتى على اليابسة: «الطرّادات الحربية تطلق النار بكثافة على الشاطئ نفسه، حيث تقع عششنا الخشبية. أُصيب كثير من الصيادين من دون أن يبتعدوا متراً واحداً عن الأرض».وعن عمله اليومي، يضيف: «حسكات المجداف هذه لا تعطينا أكثر من وجبة واحدة من السمك، أو طبق من السلطعون. نأكله نحن وأطفالنا فقط. لا يمكن لهذه الحسكات أن تذهب أكثر من ثلاثة أميال. هي غير مخصصة للإبحار العميق ولا للصيد الوفير».
حصار فوق الركام
يعود زكريا بكر لاستكمال الصورة التي تبدو أكبر من قدرة أي صياد على احتمالها، فيقول: «الاحتلال لم يدمّر فقط أدواتنا، بل دمّر عوامل إنتاج الغذاء بالكامل. أغلق البحر والمعابر ليشتد الخناق على السكان، لتشكيل سلسلة متكاملة من التجويع. حتى الصياد نفسه لم يسلم من النزوح، عشرات الصيادين نزحوا مرات عديدة خلال الحرب، وتدمّرت منازلهم بالكامل».ويضيف بأسى واضح: «نحن الآن في عامين وشهر من المنع المتواصل للصيادين من دخول البحر. ما يحدث اليوم ليس صيداً، بل محاولات صغيرة يقوم بها عدد محدود من الصيادين على متن حسكات صغيرة كانت تُستخدم للتنزه. الإنتاج السمكي اليوم لا يصل إلى 2 في المئة من حجم الإنتاج الطبيعي قبل الحصار».ويطرح بكر سؤال المرحلة: «ما المطلوب اليوم؟»، ثم يجيب: «أولاً، حماية الصياد من القتل والاعتقال. بالأمس فقط جرى اعتقال أربعة صيادين من مدينة غزة. يجب وقف كل أشكال العدوان. ثم نبدأ الحديث عن إعادة الإعمار. نحن بحاجة إلى أكثر من 1000 مركب جديد، وبناء غرف تخزين ومخازن، ورافعات لانتشال القوارب المحترقة من داخل حوض الميناء».
مراكب في العاصفة
يواصل بكر تفاصيله، قائلًا: «الميناء نفسه يحتاج إلى صيانة جذرية. قوات الاحتلال قصفت ميناء غزة الرئيسي بأكثر من 26 صاروخاً في اليوم السادس من الحرب، وشطرته إلى نصفين، بحفرة عمقها 20 متراً. لم يبق شيء صالحاً للعمل».ويضيف: «نحن بحاجة إلى آلاف القِطع من الشِباك الجديدة، بعد أن أُحرقت الشباك القديمة بالكامل. نحتاج مئات أجهزة المسح الضوئي وأنظمة «GPS». نحتاج أكثر من 1000 محرك. هذه ليست رفاهيات، بل الأساسيات التي تُمكّن الصياد من العودة إلى البحر».ويؤكد: «على الأقل يجب أن نعود إلى ما كان عليه الوضع قبل السابع من أكتوبر 2023، حين كان القطاع يعمل رغم الحصار. اليوم نحن في نقطة الصفر».ثم يتابع بنبرة تجمع بين الغضب والأمل: «قبل الحرب كان هناك تدمير ممنهج في ثلاثة مسارات: حصار بحري، منع إدخال معدات الصيد، والملاحقة المستمرة للصيادين. لكن ما بعد الحرب جعل قطاع الصيد كياناً بلا أطراف، بلا أدوات، بلا مراكب. آن الأوان أن ينتهي هذا كله».ويختم قائلًا: «هذا القطاع لا يؤمّن فقط حياة آلاف الأسر، بل يؤمّن الغذاء لأبناء شعبنا. وكل يوم يبقى فيه البحر مغلقاً، تضيق الحياة أكثر».
*المصدر : القدس العربي

