أحدث الأخبار
الأحد 27 تموز/يوليو 2025
1 2 3 41137
صحافة : صحف بريطانية: مراكز توزيع الطعام في غزة ليست مجرد فخاخ للقتل بل ذريعة لتبرير المجاعة!!
27.07.2025

نشرت صحيفة “الغارديان” مقالًا لأليكس دي وال، المدير التنفيذي لـ “وورلد بيس فاونديشن” بجامعة تافتس في ماساتشوستس، والذي عمل في المجال الإنساني، وكتب عن المجاعة خلال أربعة عقود، قال فيه إن مراكز توزيع الطعام التي أنشأتها إسرائيل في غزة لم تعد مجرد فخاخ موت، بل هي ذريعة لتجويع غزة.وقال إننا شهدنا ما حدث في بيافرا في نيجيريا، في ستينيات القرن الماضي، ومجاعة إثيوبيا في ثمانينيات القرن العشرين، وفي غزة نشهد محاولة لتدمير مجتمع بأكمله.
الانهيار الاجتماعي الذي نشهده، وإهانة البشر، ليس نتيجة ثانوية للأذى الذي تلحقه إسرائيل، بل هو العنصر الجوهري للجريمة: تدمير المجتمع الفلسطيني.وجاء في مقاله: “عندما تسيطر المجاعة الجماعية على مجتمع ما، يحدث أمرٌ نادر ورهيب. فالمجاعة ليست مجرد ظاهرة بيولوجية لضمور الجسم، بل هي أيضًا صرخة موت المجتمع.
المجاعة هي مشهد الناس الذين يبحثون عن الطعام في كومة قمامة، إنها امرأة تطبخ سرًا وتخفي الطعام عن أبناء عمومتها الجائعين، وهي عائلة تبيع مجوهرات جدتها مقابل وجبة واحدة، وجوههم شاحبة بلا مشاعر، فالمجاعة ليست أمرًا مصقولًا، فهي الإذلال والعار، ونعم، نزع الصفة الإنسانية الذي يحدث عندما يتقاتل البشر للحصول على الطعام كالحيوانات”.
ويضيف أن هذا هو الواقع الذي لا يمكن لأي إحصاءات أن تسجله. وتنهار أساليب قياس حالات الطوارئ الغذائية وتصنيفها- “المجاعة” هي الأسوأ، عندما ينهار المجتمع بهذه الطريقة. ولكن كما يستطيع الطبيب المتمرس تشخيص الحمى دون الحاجة إلى إرسال عينات دم إلى المختبر، فإن العاملين في المجال الإنساني المخضرمين، الذين شهدوا عمق المعاناة الإنسانية في بيافرا عام 1969، أو في إثيوبيا عام 1984، يدركون هذه الأعراض عندما يرونها. وهم يرونها في غزة اليوم.
وقال إنك عندما تنظر إلى بيانات “مؤسسة غزة الإنسانية”، المنظمة التي دعمتها الولايات المتحدة وإسرائيل وبدأت بالعمل في أيار/مايو، فإنك تدخل عالمًا مختلفًا.
فالمؤسسة تقدم نفسها على أنها مهنية، وتقوم بعملية رحيمة ومصممة لتناسب القرن الحادي والعشرين. وستشاهد صورًا عن النظام والكفاءة وبيانات متباهية بأنها وزعت أكثر من 2 مليون وجبة يوم أمس من مراكزها الأربعة.
وإلى جانب صور الأطفال الجائعين والنساء المنهارات من الجوع، هناك أيضًا صور لشباب أصحاء. وعلى عكس اللقطات التي صورها صحافيون فلسطينيون، والتي تظهر التدافع اليائس للحصول على المساعدات القليلة التي لا تزال تقدمها الأمم المتحدة، تقدم مؤسسة غزة الإنسانية صورًا لعمليات توزيع منظمة، وأخرى تظهر الموظفين في المؤسسة وهم يمسكون بأيدي أطفال فلسطينيين. ويصر متحدثون إسرائيليون على أن الأمم المتحدة لديها مئات الشاحنات المحملة بالأغذية داخل محيط غزة، وترفض توزيعها.
ويقول دي وال إن الصورة الوردية لا تصمد أمام التدقيق البسيط، وهناك أربعة أسباب تجعلها، في أحسن الأحوال، عملية مرتجلة من هواة، وفي أسوأ الحالات، غطاء لجريمة المجاعة الجماعية المستمرة.
أولًا: الأرقام غير دقيقة. في نيسان/أبريل، قدّرت منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة مخزون الغذاء المتبقي في غزة، بعد 18 شهرًا من الحصار والحرب، وشهرين من الحصار الإسرائيلي الشامل، بأن توافر الغذاء سينخفض إلى نصف ما هو مطلوب فقط لاستمرار الحياة، في وقت ما بين أيار/مايو وتموز/يوليو. هذا يعني أن جهود الإغاثة يجب أن تغطي كامل احتياجات غزة الغذائية. فمليونا وجبة يوميًا أقل من نصف ما هو مطلوب. ربما تكون حصص صندوق الغذاء العالمي قد أبطأت وتيرة المجاعة، ولكن ليس كثيرًا.
ثانيًا: لا تستطيع التخفيف من المجاعة عبر الأرقام.
فنظام “مؤسسة غزة الإنسانية” هو مثل من يقف على حافة بركة كبيرة ويرمي فتات الخبز للسمك. من سيأكل الفتات هذا؟
وعادة ما يصيب الجوع الأقلية الضعيفة، فالمقياس الذي تستخدمه الأمم المتحدة لتحديد متى يصل انعدام الأمن الغذائي الحاد إلى مستويات المجاعة هو عندما تواجه 20% من الأسر نقصًا حادًا في الغذاء. ويصيب الجوع الأضعف، لا الأقوى. وعلى مرّ العقود، توصلت البرامج الإنسانية إلى أفضل السبل لاستهداف أفقر الناس، كالنساء اللواتي فقدن أزواجهن، واللواتي يعتنين بالعديد من الأطفال، وربما آباء وأمهات مسنين أيضًا.
إن المرحلة الأخيرة من إيصال المساعدات هي الأهم. وتدير “مؤسسة غزة الإنسانية” أربع مراكز توزيع، ثلاث منها في أقصى جنوب غزة، على أنقاض رفح، وواحدة في وسط غزة. جميعها في مناطق عسكرية، وتفتح لفترات قصيرة وبإشعار قصير. وللحصول على هذه الحصص، يجب على الناس الانتظار بين الأنقاض، وانتظار فتح البوابات استعدادًا للاندفاع نحوها في أي لحظة، ومواجهة المواقع العسكرية للجيش الإسرائيلي.
إنهم يدركون أن الوسيلة الوحيدة المتاحة لجنود الجيش الإسرائيلي للسيطرة على الحشود هي إطلاق الذخيرة الحية، حتى عندما لا يكون إطلاق النار بقصد القتل. وعندما تتحدث “مؤسسة غزة الإنسانية” عن “مواقع التوزيع الآمنة”، فإنه يشير إلى كيفية تحكمها في طرودها حتى لحظة تسليمها، وليس إلى كيفية توصيلها بأمان إلى المحتاجين. ويُقتل العشرات من طالبي المساعدة يوميًا وهم يحاولون الوصول إلى هذه المواقع.
المجاعة ليست مجرد ظاهرة بيولوجية لضمور الجسم، بل هي أيضًا صرخة موت المجتمع.. إنها الإذلال والعار، ونزع الصفة الإنسانية
وكيف ستنضم الأم المرهقة لأطفالها الجائعين، أو كبار السن أو ذوي الإعاقة، إلى هذا التدافع؟ كيف سيواجهون ليس فقط تلك المواقع العسكرية، بل أيضًا العصابات المتلهفة لسرقة أثمن المواد الغذائية لأنفسهم أو لبيعها في السوق؟ لا تعرف “مؤسسة غزة الإنسانية” من يستهلك الحصص. إنها ليست وصفة لإطعام أفقر الناس، بل هي قانون الغاب.
ثالثًا: يجب تصميم المساعدة لتلبية احتياجات الناس الفعلية. وعلى رأس القائمة أغذية متخصصة لرعاية الأطفال الذين يعانون من سوء التغذية والذين لا يستطيعون تناول وجبات منتظمة، مثل “بلامبي نات”، وهو غذاء علاجي جاهز للاستخدام. وعادة ما تحتوي رزم طعام “مؤسسة غزة الإنسانية” على الطحين، الباستا، الطحينة، زيت الطبخ، الأرز، الحمص، والعدس. لا طعام للأطفال أو “بلامبي نات”، ولا يوجد هناك ممرضون أو أخصائيو تغذية في المجتمع لتقديم الرعاية العلاجية للأطفال الذين يعانون من الجوع.
وتخيّلوا الأم اليائسة التي تقع حرفيًا في نهاية السلسلة الغذائية: كيف ستطهو حصصها الغذائية؟ كيف تجد الماء النظيف؟ لقد خفّضت إسرائيل نسبة المياه الصحية إلى جزء ضئيل من الحاجة، وتقصف محطات تحلية المياه المتبقية. ما الذي يمكنها استخدامه لإشعال النار؟ بدون كهرباء أو غاز طهي، قد تحرق القمامة لتسخين الطعام.
رابعًا وأخيرًا: أي عملية إنسانية تقوم على دعم المنكوبين وتحترم كرامة من هم في أمسّ الحاجة وتعمل مع المجتمعات، وما تفعله مؤسسة غزة الإنسانية هو العكس، فهي تهين وتقوّض.
إن الانهيار الاجتماعي الذي نشهده، وإهانة البشر، ليس نتيجة ثانوية للأذى الذي تلحقه إسرائيل، بل هو العنصر الجوهري للجريمة: تدمير المجتمع الفلسطيني.
لا تُظهر حكومة إسرائيل أي اكتراث على الإطلاق بحياة الفلسطينيين أو موتهم. إنها تريد تجنب وصمة اتهامها بالتجويع والإبادة الجماعية، و”مؤسسة غزة الإنسانية” هي ذريعتها الحالية. علينا ألا ننخدع.
وفي مقال آخر نشره دي وال في صحيفة “أوبزيرفر”، أشار إلى أن إسرائيل تتبع نفس الدليل الذي تتبعه دول أخرى تحاول إلقاء ذنب المجاعة على الآخرين. وقد شهدنا هذا في بيافرا – نيجيريا عام 1969، وإثيوبيا عام 1984.
وقال إن من تسببوا بالكوارث يبذلون قصارى جهدهم لإخفاء جريمتهم. وأولى الخطوات هي منع الشاهد. فقبل أسبوعين، أحيت أوروبا وأمريكا الذكرى الأربعين لحفل “لايف إيد” الذي نُظم بسبب مجاعة إثيوبيا. وما دفع المغني بوب غيلدوف للتحرك هو رؤيته لصور مراسلي تلفزيون “بي بي سي” مايكل بورك ومحمد أمين، عن مجاعة مدمرة، حاول النظام العسكري الإثيوبي منع كشفها لتجنّب إحراج الكارثة، ولأنهم كانوا يستخدمون الطعام كسلاح حرب.
وفي غزة، لم يُسمح لأي صحفي أجنبي بالدخول منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، باستثناء المرافقين لوحدات الجيش الإسرائيلي. ويغطي الصحافيون الفلسطينيون الحرب بانتظام، ويواجهون خطرًا كبيرًا ومشقة، وقد قُتل أكثر من 170 صحفيًا.
ومن أجل التغطية على المجاعة، تقوم الأنظمة بمنع استخدام كلمة “مجاعة”. ففي مواجهة مجاعة اجتاحت البنغال عام 1943، منعت حكومة الحرب بقيادة ونستون تشرشل الصحف من استخدام كلمتي “مجاعة” أو “الموت جوعًا”، حتى تحايل محرر صحيفة “نيو ستيتسمان” على الحظر بنشر صور صادمة لا تحتاج إلى شرح. وكان الأوان قد فات بالنسبة لما يُقدر بثلاثة ملايين شخص ماتوا في مجاعة كان من الممكن منعها.
وقد اعترضت إسرائيل، ومدافعوها في واشنطن، على كلمة “مجاعة”. في كانون الأول/ديسمبر من العام الماضي، أصدرت شبكة نظام الإنذار المبكر بالمجاعة (فيوز نت) تقريرًا يُظهر ظروف المجاعة في شمال غزة. ولأول مرة في تاريخ المنظمة الممتد لأربعين عامًا، اضطرت إلى سحب التقرير. وكما هو الحال مع البنغال، اخترقت الصور الآن سحابة الإنكار.
وتشمل خطوات إنكار المجاعة: التلاعب بالإحصائيات، التقليل من أهمية تحذيرات “فيو نت” ونظيرتها في الأمم المتحدة “آلية التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي” (IPC)، وإنكار وجود المجاعة، وهو ما فعله رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد في ذروة الحرب ضد منطقة تيغراي عام 2021، عندما كان يفرض حصارًا تجويعيًا مشددًا.
نظام “مؤسسة غزة الإنسانية” هو مثل من يقف على حافة بركة كبيرة ويرمي فتات الخبز للسمك. من سيأكل الفتات هذا؟
وقد عقّدت إسرائيل، بشكل متزايد، جمع البيانات اللازمة لإظهار عمق الجوع الحقيقي. وكان وجود الأمم المتحدة على الأرض محدودًا. واعتمد آخر تقرير للتصنيف المرحلي المتكامل على مسح هاتفي، لكن أفقر الفلسطينيين غالبًا ما يفتقرون إلى الهواتف.
وتشمل خطوات التعتيم على المجاعة مهاجمة المصادر، وبخاصة الصادرة عن وزارة الصحة في غزة، التي قدرت حصيلة القتلى حتى الآن بحوالي 61,800 شخص. وتصف إسرائيل وغيرها هذه الوزارة عادة بـ”وزارة الصحة التابعة لحماس”، ما يعني أنه لا يمكن الوثوق بها.
وبالنسبة للأرقام الصادرة عن الأمم المتحدة بسبب الجوع، فإنها تُتهم بالتحيز ومعاداة السامية.
ويشمل دليل إنكار المجاعة أيضًا تحميل المسؤولية لطرف آخر. فبما أن معظم المجاعات الأخيرة في إفريقيا والشرق الأوسط كانت بسبب الحروب، فإن الحكومات تفضل إلقاء اللوم على التغيرات المناخية، وغالبًا ما تنساق وكالات الإغاثة وراء هذه الرواية. فمن الأسهل جمع الأموال عندما يُلقى اللوم على القضاء والقدر.
ولا تستطيع إسرائيل إلقاء اللوم على التغيرات المناخية، لكنها تلقي اللوم على “حماس”، رغم قلّة الأدلة على أنها تسرق المساعدات وتتسبب في المجاعة. ولو كانت إسرائيل جادة في منع “حماس” من سرقة المساعدات، لما كانت تدير “مؤسسة غزة الإنسانية” المعرضة لهذا الانتهاك تحديدًا، بينما تمنع الأمم المتحدة من إدارة مطابخها التي تقدم الطعام الساخن للأطفال مباشرة.
وأخيرًا، تلجأ الحكومات إلى التبرير. فالكثير من المدافعين عن إسرائيل لا ينكرون وجود مجاعة، بل يقولون إنها غير مهمة، وحجتهم أن “حماس” والفلسطينيين يريدون تدمير إسرائيل، وهذا يبرر المجاعة الجماعية.