أحدث الأخبار
الجمعة 18 تموز/يوليو 2025
مملكة إسرائيل لم تُستكمل بعد!!
بقلم : سهيل كيوان ... 17.07.2025

منذ نشأتها تمارس دولة الاحتلال سياسات متعددة تدفع باتجاه تشجيع، أو تسهيل، أو إرغام الفلسطينيين على الهجرة. في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي نُشِرت إعلانات في صحف عبرية وعربية تصدر في إسرائيل، بأن هنالك جهات تضمن للمواطنين العرب، خصوصا فئة الشباب، السفر إلى كندا والحصول على الجنسية الكندية، والعمل الفوري فيها، مقابل بيع جميع ممتلكاتهم لهذه الجهة المُعلنة، والتنازل عن الجنسية الإسرائيلية، والتوقيع على مستندات طويلة الأجل، تقطع أي صلة لهم بوطنهم.
لم تنجح هذه الأفكار التي كان يغذيها الفكر الكاهاني بزعامة الراب مئير كاهانا، الذي كان يعلنها على منبر الكنيست الذي كان عضوا فيه 1984-1988 دون لياقة أو دبلوماسية عُرف بها بعض السياسيين الإسرائيليين، أن هدفه طرد العرب، وكان شعاره «طرد العرب الآن»، «الموت للعرب». لم تنجح الدعاية للهجرة إلا عند بعض أفراد ليس أكثر، ولكن لم تكن هناك ضغوطات مثل، الحصار أو التجويع والقتل والغارات والأحزمة النارية كما هو حال قطاع غزة اليوم.
*تسعى دولة الاحتلال ليس لتقليل عدد الفلسطينيين بهدف تغيير الواقع الديموغرافي، بل لتُرسخ في وعي الفلسطينيين والعرب والعالم بأنها دولة فوق القانون الدولي المتعارف عليه
وفق تقارير صحافية أجرت دولة الاحتلال اتصالات مع أربع عشرة دولة من افريقيا وأوروبا الشرقية وأمريكا الجنوبية، إضافة إلى مصر، لاستقبال لاجئين من قطاع غزة، بمسميات وطرق وأساليب متعددة. إلا أن أياً من هذه الدول لم توافق رسمياً، ولكن بعضها لم يعلن رفضه القاطع للفكرة، وعبر بعضها عن استعداده لاستقبال حالات إنسانية للعلاج، وليس لإقامة دائمة ومنح جنسية. يقترح الاحتلال سلة تشجيعية مثل تمويل تذاكر الطيران، وتقديم تسهيلات مالية لمن يغادر قطاع غزة طواعية. و»طواعية» هذه تأتي بعد حصار طويل وظروف معيشية قاهرة وتجويع وتعطيش، بل وصل الأمر إلى منع الاستحمام في مياه البحر المتوسط، لدفع السكان للتفكير بالهجرة الطوعية كخيار وحيد للنجاة من الموت و»للاستحمام». قبل الحرب الحالية التي بدأت منذ أكتوبر 2023، سُمِح لبعض سكان قطاع غزة بالسفر عبر مطار رامون في النقب إلى تركيا، أو غيرها من الدول، كبديل مؤقت عن معبر رفح. ساهمت دولة الاحتلال أحيانا في تنسيق سفر الأفراد عبر الأردن أو مصر أو تركيا، وساعدت شركات خاصة، أو منظمات ووسطاء في استخراج التأشيرات. كان هناك دعمٌ مبطن لبعض الشركات أو الوكالات التي تعمل على تسهيل إجراءات الهجرة، كأنها نشاط اقتصادي طبيعي، لكنها تتقاطع مع الأجندة السياسية للاحتلال. من خلال الممارسات الهمجية في القتل والهدم وتجريف المقابر والتنكيل بالجثث، والاعتقالات في ظروف قاسية جدا، يتخللها تعذيب يصل إلى الموت في عشرات الحالات، وفي حالات أخرى إلى الهزال الشديد، والعقوبات الجماعية. تسعى دولة الاحتلال ليس فقط إلى تقليل أعداد الفلسطينيين بهدف تغيير الواقع الديموغرافي بين النهر والبحر، بل كذلك لكي تُرسخ في وعي الفلسطينيين والعرب والعالم بأنها دولة فوق القانون الدولي المتعارف عليه، بل إن القانون الدولي بات كليشيهات لا قيمة لها، وهذا يعني أنه من العبث أن تعاند دولة الاحتلال أو تقاومها، حتى لو أعلنت عشرات الدول دعمها للفلسطينيين، وحقهم واستنكارها وتنديدها بما يجري لهم، فهذه دولة تفعل ما يحلو لها من دون أي رادع، سوى ما تقرره هي، ومن يحاول ردعها فإن مصيره الخراب، وهي توحي بأنها مسيطرة على قرار أعظم دولة في العالم، حتى ترامب رغم كل ما قدمه فهم يريدون منه أكثر، ويقال إنه يتعرض لابتزاز ويهددون بفضحه.
كذلك علاقاتها جيدة مع الزعيم الروسي بوتين، الذي قال «إن اللغة الروسية باتت لغة رسمية في إسرائيل، وإن مليونين من الروس يعيشون فيها»، وهذا ردعه عن دعم إيران! وأن بريطانيا وفرنسا وألمانيا وأوروبا لن تتخلى عنها مهما فعلت، باستثناء أصوات قليلة هنا وهناك. أما العرب فهم أمة عاجزة عن الفعل، صحيح أنهم يتعاطفون كشعوب مع فلسطين، ولكن الأنظمة تقول وتمارس أمرا آخر، وهم مُنقسِمون إلى طوائِف وشِيَع، ولدى كل بلد منهم همومه ومشاكله الداخلية، التي تشغله عن فلسطين، بعضهم في صراعات داخلية، وبعضهم يعاني فقراً، والبعض تشغله الصراعات المذهبية، ومشاكل الأقليات. والنماذج أمامكم كثيرة، فلا يكاد يخلو بلد عربي من واحدة من هذه الآفات، أو بأكثر من واحدة منها، وفوق هذا سترى أن دولة الاحتلال تتدخل هنا وهناك، تارة لصالح هذا وتارة لصالح ذاك، كي تُبقي الصراعات مشتعلة إلى ما لا نهاية، وكلما كان الأذى من طرف لآخر أكثر وأشد إيلاما كان هذا مدعاة لسرور الاحتلال كما يحدث في سوريا حاليا. ها هي أوروبا تتظاهر، فما الذي فعلته هذه المظاهرات؟ هل منعت هدم حارة؟ هل منعت غارة على خيام النازحين؟ هل منعت إصدار أوامر إخلاء مرة تلو أخرى؟ هل أنقذت طوابير المزدحمين طلباً للطحين! ها هي تطلق يد المستوطنين في الضفة الغربية، فيحرقون ويقتلون وينهبون، وفي أفضل الحالات تجد هناك من يَستَنكر ويندد، حتى إن هذه البيانات أصبحت مثيرة للشفقة، أو للسخرية أو للغضب، ولم تعد تستحق حتى أن تذكر في نشرات الأخبار. من يهتم لبيان استنكار وشجب، أو حتى التنديد الشديد! من يهتم لتصريحات مثل» سنقفُ إلى جانب الفلسطينيين لنيل حقوقهم التي تنص عليها الشرعية الدولية». وأين هي الجامعة العربية؟ هل ما زالت قائمة؟ تبدو وكأنه لا حس ولا خبَر؟ وأين قراراتها؟ وماذا تساوي على أرض الواقع؟
من خلال الإمعان في جرائم الحرب، تسعى دولة الاحتلال إلى إقناع الفلسطينيين أنه «لا نصير لكم»، بل إن بعض الإعلاميين الإسرائيليين يسخر من حلفاء إسرائيل العرب، ويرى أنهم سيطبعون رغما عنهم، وأن إسرائيل ليست بحاجة إليهم، بل هم بحاجة لإسرائيل لحمايتهم، ويتحدى المصري والأردني أن يقطعوا علاقات السلام مع إسرائيل. هذا سعيٌ لترسيخ وعي الهزيمة لدى الإنسان الفلسطيني، وبث حالة من اليأس تؤدي بالتالي إلى تقبل فكرة الهجرة كحلٍ وحيدٍ للنجاة. إلا أنه رغم الإبادة الممنهجة، ورغم المآسي التي فاقت الخيال، فإن أهالي قطاع غزة ومن تجربة أهلهم وأجدادهم، يدركون أن الخروج من قطاع غزة يعني أمراً واحداً، هو أن يبقوا لاجئين إلى الأبد، وأن يعامَلوا خارج وطنهم كغرباء ودخلاء هم وأبناؤهم وأحفادهم. لهذا فإن أكثريتهم الساحقة مستعدة في حال توقفت الحرب، أن تعيش على أنقاض بيوتها، رغم التضحيات الجسيمة، فقط إذا توفرت لهم مقومات الحياة الأساسية، وهذا ما تحاول دولة الاحتلال أن تمنعه، من خلال المماطلة في عقد صفقة هدنة وتبادل أسرى ووقف للحرب. حكومة الاحتلال تعرف أن وقف الحرب يعني أن الأكثرية الساحقة من الغزيين سيفضلون البقاء في بلدهم، ولو على الأنقاض وبينها وتحتها. وسوف ينهضون ببلدهم، فهذا الشعب ليس كسولا، ولديه قدرات وطاقات هائلة وعزيمة لإعادة البناء وبأسرع مما يظن أي خبير. المماطلة في تنفيذ صفقة هي أيضاً جزءٌ من الحرب النفسية، فالمفاوضات تبعثُ الأمل لبضعة أيام تجعل الغزيين متفائلين، بل إن بعضهم يُسرعُ من باب جلب التفاؤل للاحتفال، ولكنها لا تلبث أن تحبطهم بإفشال أي صفقة محتملة، من خلال طرح شروط جديدة. هذا يرافقه الإمعان في القتل اليومي الممنهج لمئات منهم في اليوم الواحد. العالم توقف عن العد، فلم يعد يفرق كثيراً زيادة ألفٍ من الشهداء أو أقل ببضع مئات، وهنالك من يؤكد أن أعداد الضحايا أكثر بكثير مما تعلنه حكومة قطاع غزة، فهنالك آلاف المفقودين الذين لم يجر إحصاؤهم بعد، وهؤلاء أكثرهم تحت الأنقاض والردم، وفي مقابر جماعية مجهولة، وفي الأنفاق. لم تنته أطماع دولة الاحتلال بعد، ولا مشاريعها التهجيرية، التي لن تتوقف عند قطاع غزة، فمملكة إسرائيل يجب أن تصل من النيل إلى الفرات، وحل الدولتين يتعارض مع أمر الرب.
هذا ما يؤمن به عشرات ملايين من المسيحيين الإنجيليين الصهاينة، ذوي النفوذ القوي في أمريكا، وحسب عقيدتهم لن يأتي المخلص، إلا بعد عودة كل اليهود إلى أرض الميعاد، وإقامة الهيكل الثالث بعد هدم المسجد الأقصى وتطهير المكان من الرجس، وتأتي معركة (هارمجدون) بين الخير والشر، وطبعا هم الخير والعرب وغير المؤمنين بالمسيح المنتظر هم الشر! والصهيونية تستغل هذه العقيدة لتحقيق أطماعها، وبعدها لن يفرق معها جاء المسيح المنتظر أو لم يأت.

1