
لم يكن فيلم "Missing"، الذي عرض مطلع الثمانينيّات، مجرّد سرد لحادثة اختفاء فردي في تشيلي إبّان حكم بينوشيه، بقدر ما كان تفكيكاً وتفصيلاً لعقلية سلطوية تدير الغموض سياسةً رسمية. ما بدا حادثاً عرضياً، كان في الحقيقة جزءاً من بنية تستثمر في التضليل، وتُدير العنف داخل آلياتها اليومية من دون أن تترك أثراً واضحاً للمحاسبة. في الفيلم، كان الأب يدور بين المكاتب، يواجه موظّفين يردّدون عبارات مطمئنة منزوعة المعنى، بينما تتلاشى الحقيقة داخل دهاليز مشذّبة بالأوراق والتصاريح الصحافية اللطيفة. كلّ سؤال كان يُواجَه بإحالة، وكلّ إحالة تبتلع الوقت واليقين معاً. لم يكن الخطف هناك في تشيلي فجوةً في النظام، بل شكلاً من أشكال حضوره الأكثر خفاء.
اليوم، في سورية، وفي أماكن يُفترض أنها خرجت من الحرب وتقع تحت حماية السلطة الجديدة، تتكرّر الحكاية بطريقة أكثر قسوة. سوريات، معظمهن من الطائفة العلوية، يُفقدن من دون أثر. لا معارك تُخاض في الأرض، ولا فصائل تعلن مسؤوليتها. ومع ذلك، تتراكم البلاغات عن اختفاء نساء أعمارهن بين السادسة عشرة والتاسعة والثلاثين. عدد منهن يعُدن بصمت، وأخريات يظلّن معلّقات في المجهول. العائلات تنتظر، والسلطات لا توضح شيئاً. التفسيرات الجاهزة تنحصر في "خلافات"، أو "مشكلات شخصية"، أو "سوء تفاهم". هكذا يتم سحب الواقعة من المجال العام، وإفراغها من معناها السياسي. لا أحد يعترف بأن ما يجري يستدعي استنفار الدولة والأمن والشعب على اعتبار أن ظاهرة خطيرة تجري. الكلمات تُختار بعناية كي لا تستدعي ردّاً. الجريمة تُروى حدثاً غامضاً، وتُدرج في خانة التفاصيل التي لا تستحقّ التدقيق. هذه اللغة لا تُخفّف الألم، بل تُحيله أمراً ذاتياً. الضحية تُعاد كتابتها، لا بوصفها منتهَكةً، بل عنصراً ملتبساً في رواية غير مكتملة. الجسد الأنثوي المخطوف هنا لا يُرى أرضيةً للسؤال السياسي أو الأمني عن أفضل حسن نيّة، بل عنصراً مُعرّضاً للتأويل الأخلاقي. مكانه داخل الحكاية مشروط بإخضاعه لقوالب جاهزة. يُسأل عن نياته لا عن مصيره. كلّ محاولة للفهم تُواجه بنظرات الشكّ. وكأنّ المرأة التي تختفي لا تختفي فقط من الحياة، بل من الحقّ في الحزن عليها جماعياً. الفضاء العام لا يتحرّك. شبكات التواصل التي وُعدنا بها أدواتِ تحرّرٍ باتت مناطق صدىً بارد. لا احتجاجات تُنظّم، ولا مطالبات تظهر. ما يظهر غالباً تشكيك ناعم، أو خطاب مموّه يستدعي "المسؤولية الفردية". كأن الاختفاء لا يستدعي فعلاً جماعياً، بل تأمّلاً في "خيارات" الضحية. ولا أحد يعلن أن غياب امرأة واحدة يمكن أن يكون كافياً لطرح أسئلة وجودية حول شكل السلطة، وطبيعة الجماعة، وحدود اللغة.
ليس الخطر هنا في مسؤولية النظام أو لا مسؤوليته فقط، بل في تآكل الحسّ الجماعي. حين تمرّ الجريمة من دون أثر، يصبح الصمت الجريمة الثانية. وكلّ من يشاهد من دون أن يتكلم، يساهم في تمديد عمرها. في النهاية، الأنظمة على اختلاف أشكالها لا تقاس بقدرتها على صناعة الرعب والفساد، بل بمدى استعداد محكوميها لقبول ذلك أمراً يومياً. وما يحدث اليوم لا يدلّ على قوة أحد، بل على فراغ المعنى. وحين يُصبح اختفاء النساء أمراً لا يثير حتى القلق، ربّما لا تعود المسألة تخصّ السلطة، بل تفضح الحدود الحقيقية لجماعة لم تعد ترى نفسها جماعةً.
تُعيد حالات اختفاء النساء في سورية إنتاج منظومة الغموض التي تناولها فيلم "Missing"، إذ لا تتحرّك السلطة عبر القمع المباشر، بل من خلال آليات مؤسّسية تفرّغ الفعل من معناه، وتدير العنف وتخفيه عبر لغة مراوِغة تَحول دون إعلان أيّ سردية مستقرّة يمكن من خلالها فهم ما جرى أو المطالبة بمحاسبة. السلطة، في الفيلم كما في الواقع السوري، لا تنكر الجريمة بشكل صريح، لكنّها تحوّلها سلسلةً من الإحالات الإدارية والتفسيرات الرمادية، التي تمنع التثبيت، وتُبقي الحقيقة في حالة تعليق. وهكذا لا تُصبح الضحية محور السؤال، بل يتحوّل وجودها تفصيل مُحيَّد، تُعاد صياغته داخل روايات جاهزة تُوزّع المسؤولية على اللاشيء.
الفيلم، الذي كان ينذر بأنظمة تعرف كيف تُنظّم النسيان، يجد صداه في حاضر تتحوّل فيه اختفاءات النساء شكلاً من أشكال التنظيم الاجتماعي الصامت. فالمؤسّسات النسوية صامتة أيضاً، وفي الغالب لا تتكلّم بوضوح، والمجتمع لا يطرح أسئلته من موقع الشراكة. أمام هذا المشهد، لا تبرز المشكلة من غياب العدالة قيمةً، بل من تفكّك القدرة الجماعية على الفهم، والتعبير، والاستجابة. هذه هي اللحظة التي يتحوّل فيها اختفاء النساء نظاماً، بعد أن تحوّل قبل ذلك قتل الرجال قرب حقولهم أخطاءً فرديةً لا تنتهي، وهي اللحظة نفسها التي تتحوّل فيها الجماعة مشهداً صامتاً لا يرى من الغياب إلا ما يتوافق مع قدرته على الاحتمال.
