شكّل فوز الشاب الشجاع زُهران ممداني برئاسة بلدية نيويورك ضربةً للرئيس الأميركي ترامب وسياساته العنصرية وازدرائه الفقراء. وشكّل ضربةً لقيادة حزبه "الديمقراطي"، وحوّل ما كان يعرف بحزب الطبقات الوسطى والعمّال والأقليات شريكاً في "حكم الواحد بالمائة"، النخبة التي تستحوذ على أكثر من 40% من الثروات ومجاميع الدخل في أميركا. حقّق ممداني ذلك في معقل الرأسمالية الأميركية في نيويورك، التي استجاب سكّانها لصرخته ضدّ هيمنة مجموعة من الأثرياء على مدينةٍ تعاني الفقر، حيث يُسحق الكادحون باسم "الحلم الأميركي"، وديمقراطية الأقلية المتنفّذة (الأوليغارشيا).
ما حدث في نيويورك أحدث خرقاً في المنظومة الفكرية للرأسمالية النيوليبرالية، التي سطت بمفاهيمها وممارساتها غير الإنسانية على دول العالم وشعوبه. فجاء الردّ من سكّان نيويورك في إسقاط أقنعة مدّعي الديمقراطية الزائفة. كذلك قال ممداني إنها مدينة المهاجرين في بلدٍ يحاول رئيسها إبعاد المهاجرين وترحيلهم، بل وتجريمهم. لم تتبيّن بعد أبعاد وصول ممداني إلى منصب عمدة نيويورك وتداعياته، والأرجح أن يحاول"السيستم" أن يردَّ، بقسوة، إلا إذا انضمّت أصوات مدن أميركية أخرى. فليس سهلاً السكوت على تحدّي رأسمالية الاستغلال التي تبني أرباحها اعتماداً على "دكاكين العِرق"، أي التجمّعات العمّالية، التي هي في معظمها من فقراءَ ومهاجرين في مخازن ضيّقة، لتأمين عمالة رخيصة تفتقر إلى أدنى حقوق الحياة الصحّية والمادّية، سُخرة مخفيّة بين عمارات نيويورك الشاهقة، فلا يُسمع أنين العذاب، ولا آهات الموت.
يمتاز ممداني بثقافته وبلاغته، لكنّه لم يستمد قوته من معرفته وعلمه، بل من الانخراط المباشر في حركات الاحتجاج في الشارع والجامعات، فكان في الساحات وعلى الأرصفة بين الناس، وجاءت حركة الجامعات ضدّ حرب الإبادة في غزّة لتوفّر له، ولمن يؤمن بالعدالة ويرفض الظلم الطبقي، مساحةً ترابطت فيها قضايا العدالة والتحرر كلّها، المتقاطعة عضوياً. فهو لم يركب موجة تأييد الشعب الفلسطيني، بل كان التزام القضية الفلسطينية جزءاً من وعيه، ووعي كثيرين ممّن قادوا حركات التضامن ومعارضة الحروب الأميركية عقوداً. لذا، لم يكن تحدّيه نفوذ اللوبي الصهيوني مُفتعلاً، بل جزءاً من إيمانه بضرورة تحرّر المسؤول، المُنتخَب في أيّ موقع، من استعباد رأسمالية صناعات الأسلحة وتجّار الحروب. بهذا يمثل ممداني وعياً نوعياً ازداد اتساعاً وتعمّقاً، ردّاً على حرب الإبادة الإسرائيلية في غزّة.
اتجه جيل من الشباب، وحتى من أجيال أخرى، نحو قراءة أدبيات تحرّرية واشتراكية، كان كثيرون لا يجرؤون على الاقتراب منها، إذ كان حاجز الخوف من تهم الشيوعية ومعاداة السامية يقف "بعبعاً أحمرَ"، فجاءت النتيجة تسونامي نيويورك. وليس ممداني أول من حمل هذه الفِكَر، لكنّه الأول الذي استطاع حملها بعيداً حتى تحدّي حُكم واحدٍ من معاقل الأوليغارشيا، وهو بلدية نيويورك، التي تجاهلت قيادة الأثرياء لها سكّان المدينة وفقراءها. وقد لا يتفق الجميع مع كاتبة هذه السطور، التي ترى (مع ذلك) أن تحوّل الرأي العام حيال إسرائيل أزال عقبةً وقفت أمام تقدّم مئات من السياسيين في أميركا، وكان ذلك ضرورياً لصعود ممداني، خصوصاً أن نسبةً من يهود نيويورك أنفسهم انقلبوا ضدّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وبعضهم انقلب على إسرائيل نفسها.
وهنا لا بد من الإضاءة على بُعد مهم في التاريخ السياسي لليهود الأميركيين، فمعروفٌ أن كثيرين من الناشطين والمثقّفين شاركوا في حركات العدالة الاجتماعية والحقوق المدنية، لكن نزاعاً أو تناقضاً كان لدى كثيرين منهم، بين تأييدهم إسرائيل والتزامهم مفاهيم الحرية والعدالة. لا نستطيع القول إن ذلك "الانفصام" في المواقف قد انتهى، لكن بروز أصوات وشخصيات مهمّة يهودية دانت إسرائيل، وحتى الصهيونية، أحدث هزّةً غير مسبوقة بين اليهود في أميركا، فاختار كثيرون منهم الوقوف مع ممداني، والمضي معه ضدّ إفقار نيويورك وظلم أهلها. فوفق تقديرات لأعضاء اللوبي الصهيوني الرسمي (لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية "أيباك")، فإن 25% إلى 50% من الناخبين اليهود انتخبوا ممداني، ولم يبالوا بهجوم إسرائيل عليه، ولا بحملات التشويه التي طاولته، وهذا وحده كافٍ ليكون نقطة تحول مهمة.
سياسات ترامب وغطرسته، وتطرّفه في إيذاء المهاجرين وتقليص المساعدات الغذائية الحكومية، ووقوفه ضدّ رفع الأجور، وتوجيهاته باعتقال المهاجرين وترحيلهم، عمّقت الاحتقان الاجتماعي، وأعطت دفعةً لمسيرة ممداني. بل قد يكون الرئيس ساهم برعونته في فوز الرجل. إذ لو كان الديمقراطيون يحكمون البيت الأبيض، لشهدنا حملة تخدير وكذب من خلال الإعلام الأميركي لإفشال ممداني باسم الحفاظ على وحدة الحزب الديمقراطي. ولحسن الحظّ، أسهم ترامب بمعركته مع قيادات الحزب الديمقراطي في فضح زيفهم. وقد فعل ذلك لتثبيت سيطرته على الكونغرس، لكنه شارك من دون تخطيط في صعود تيار تقدّمي في "الديمقراطي"، يتحدّى قيادة الحزب وترامب معاً.
وبدت قيادتا الحزبين، الجمهوري والديمقراطي، في غاية البشاعة خارجياً وداخلياً، فلم يعد ما يميّز "الديمقراطي" عن "الجمهوري" (على مستوى القيادة على الأقلّ) سوى أن الأخير، وبالأخص الرئيس ترامب، أصدق في التعبير عن حقيقة السياسة العنصرية الأميركية التي يمارسها الحزبان، فالحزبان تنافسا (ويتنافسان) في تنفيذ (وفرض) سياسات نيوليبرالية، تحرم المواطن أمنه وحقوقه، بل تسحب منه حقوقه الاقتصادية والمدنية كلّها، المكتسبة عبر عقود من التغيّرات والنضالات السياسية.
***فوز ممداني أحدث خرقاً في المنظومة الفكرية للرأسمالية النيوليبرالية، التي سطت بمفاهيمها وممارساتها غير الإنسانية على العالم وشعوبه
وعليه، يجب توقّع حرب على ممداني، مع أن هناك محاولات من بعض أصحاب رؤوس الأموال للتواصل معه. هم قد يكرهون ممداني نفسه. ولكن هناك إقرار بأن تحوّلاً كبيراً يحدُث في نيويورك، وأبعد من حدودها بكثير، لا يمكن تجاهله. كذلك إن نوبات الاحتقار التي تصيب ترامب، وكراهيته ممداني فكرةً ورجلاً مسلماً، تضعان السياسيين وأصحاب رؤوس الأموال في حرج، فانتصار ممداني انتكاسة للإسلاموفوبيا، خصوصاً أن الرجل لا يخجل من أصوله ولا من ديانته، فكرامته وافتخاره بجذوره علناً يضعفان الساسة العنصريين وتلزمهم، ولو مؤقّتاً، بالتراجع.
من الصعب تقليل أهمية الحدث الذي هزّ نيويورك والعالم. في الوقت نفسه، يجب عدم توهم أن فوز ممداني سيحرّر العالم من الاستغلال والممارسات البشعة للاستعمار، لكن انتصاره أعطى دفعةً لحركات مماثلة، بعضها موجود، قد لا تنتصر على النظام العالمي، لكنها تتحدّاه وتقلّل من سطوته، هذا إن لم يُؤذَ ممداني، وحينها ستكون تلك حملة قمع عالمية ضدّ الأجيال الجديدة، التي لا تخاف القمع، ولا تأبه لكل إغراءات الشركات الكبرى والحكومات. ... نحن أمام بداية تغيير، ويجب ألّا نتفاجأ بردّات فعل قاسية على من هزّ العروش.

