أحدث الأخبار
الخميس 13 تشرين ثاني/نوفمبر 2025
زيارة الشرع لواشنطن ورسالة من الباب الخلفي!!
بقلم : د.جمال زحالقة ... 13.11.2025

في زيارة لواشنطن هي الأولى من نوعها منذ الاستقلال عام 1946، التقى رئيس سوريا أحمد الشرع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في البيت الأبيض الإثنين الماضي. وطالت المقابلة، التي كان من المقرر أن تستمر 20 دقيقة، زهاء ساعتين، جرى خلالها تناول القضايا المتعلّقة بإسرائيل وبداعش وبرفع العقوبات عن سوريا، وغيرها من الأزمات السورية «الساخنة».
دخول الشرع البيت الأبيض من الباب الخلفي الجنوبي، وليس من المدخل الرسمي، الذي يُستقبل فيه رؤساء الدول، يعني وفق البروتوكول الأمريكي أنها ليست زيارة رسمية كاملة، وأنه يجري التعامل معها بتحفّظات وبمحاذير، ورسالة «الباب الخلفي» هي، أن على الرئيس السوري أن يقطع شوطا إضافيا للإيفاء بالشروط الأمريكية لمنحه الشرعية التامة، وهي نوع من الضغط عليه للاستجابة لقائمة طويلة من المطالب الأمريكية.
قد يكون هذا الاستقبال المتحفّظ، هو إضافة نوعية لأساليب ترامب في «تقزيم» ضيوفه ـ كما فعل مع رئيسي أوكرانيا وجنوب افريقيا، حين أحرجهما أمام الكاميرات. وقد يكون أيضا ـ وهذا الأرجح ـ استجابة لطلب إسرائيلي بعدم منح الشرعية الأمريكية الكاملة للرئيس السوري، قبل أن يلبّي الشروط الأمنية والسياسية الإسرائيلية. في كل الأحوال، المسألة ليست من أي باب دخل الشرع، بل في أن اختيار الدبلوماسية الأمريكية لباب الدخول هو رسالة معناها «انت لا تستحق بعد دخول البيت الأبيض من بابه العالي المكانة»، حتى لو التقيت الرئيس الأمريكي نفسه، وهو رسالة سياسية، أنّ «عليك ان تفعل المزيد من أجل أن تكون جديرا بالدخول من بوّابة استقبال الرؤساء الرسمية». لقد حظي الشرع بشرعية أمريكية وازنة ومهمة جدا بالنسبة لمكانته الدولية والداخلية في سوريا، لكنها ليست كاملة وتبقى مشروطة برضى الإدارة الأمريكية عن سلوكه في المرحلة المقبلة. لقد كانت هذه الزيارة ممكنة أصلا، بسبب انقلاب مزدوج في سوريا تبعه تحوّل متناظر ومزدوج في الموقف الأمريكي. في سوريا جرى إسقاط بشار الأسد وحل محلّه أحمد الشرع، ما غيّر فورا توجهات الحكم في سوريا وأنهى حقبة التحالف الإيراني ـ السوري الوثيق، وأصبح الاقتراب من الغرب، ومن الولايات المتحدة بالأخص، سياسية رسمية وعملية. بموازاة ذلك أعلن الشرع تحرّره من ماضيه الجهادي، وطرح نفسه رجل دولة رصينا ومتّزنا، وقد أدّت هذه التغييرات إلى إعادة النظر في التعامل الأمريكي مع سوريا، التي اعتبرتها الولايات عمليا دولة معادية، وفي الموقف من أحمد الشرع، الذي صنّف أمريكيا كإرهابي وكهدف للاعتقال أو التصفية، وأصبح ترامب يصفه بالوسيم والقوي والمؤهل والموثوق به.
خمسة شروط
تمهيدا للقاء ترامب ـ الشرع جرى شطب اسم الأخير من قائمة العقوبات المفروضة على تنظيمي «داعش» و»القاعدة»، وجاء في قرار مجلس الأمن، الذي قدّمته الولايات المتحدة، وبالتالي كان تعبيرا عمّا تريده وتستطيع تمريره في مجلس الأمن، أن التوقعات من سوريا أن «تتخذ تدابير حازمة: للتصدي للتهديد الذي يشكله المقاتلون الإرهابيون الأجانب؛ وحماية حقوق الإنسان.. ومكافحة المخدرات؛ والنهوض بالعدالة الانتقالية؛ والقضاء على أي بقايا لأسلحة كيماوية؛ وتحقيق الأمن والاستقرار الإقليميين؛ والقيام بعملية سياسية شاملة يقودها سوريون ويمتلكون زمامها». الشروط التي أقرها مجلس الأمن (بامتناع الصين) تبقى ضمن المعقول والمقبول، لكنها ليس سوى جزء يسير من المطالب الأمريكية من النظام السوري. فقد سبق أن طرحت وزارة الخارجية الأمريكية ثمانية أسئلة لحكومة الشرع، التي اجابت عليها بإسهاب. وجرى لاحقا تقليصها إلى خمس نقاط: «أولا، التوقيع على الانضمام الى الاتفاقيات الإبراهيمية مع إسرائيل؛ ثانيا، إبعاد الإرهابيين الأجانب عن سوريا؛ ثالثا، ترحيل الإرهابيين الفلسطينيين عن سوريا؛ رابعا، مساعدة الولايات المتحدة في محاربة داعش؛ تحمّل مسؤولية معسكرات الاعتقال شمالي سوريا، التي تأوي محاربي داعش وعائلاتهم». وجرى تحويل البنود الثلاثة المتبقية من الثمانية الأصلية إلى قنوات أخرى، وهي تشمل «التحقيق في مصير الأمريكيين المفقودين في سوريا (ومنهم الصحافي أوستين تايس)؛ ومخزون الأسلحة الكيماوية؛ والتصدي لنشاط المجموعات المرتبطة بالحرس الثوري الإيراني.
هناك بالطبع شروط أمريكية أخرى، وكذلك مطالب إسرائيلية كثيرة تتبنى الولايات المتحدة معظمها. والانسجام الأمريكي مع الطموحات الإسرائيلية يصل إلى حد السعي إلى هندسة مجمل الجغرافيا السياسية الإقليمية، بحيث تكون إسرائيل هي المحور المركزي، وحوله تدور بقية أقطار الشرق الأوسط. هذا ينسجم مع أحد أهم الاستراتيجيات المتداولة في واشنطن حاليا، وتقوم على انسحاب الولايات المتحدة من مناطق العالم المختلفة مع الإبقاء على علاقة حميمية مع وكيل مركزي في كل منطقة، تكون له السطوة والهيمنة، ويقوم بحماية ورعاية المصالح الأمريكية، وإسرائيل هي هذا الوكيل في الشرق الأوسط.
إسرائيل على الخط
إسرائيل هي لاعب مركزي على خط العلاقة الأمريكية ـ السورية، وسكوتها عن الزيارة وعمّا جرى فيها هو علامة رضا، ففي ندوة عقدها «معهد واشنطن» الأسبوع الماضي بمناسبة زيارة الشرع، قال ميخائيل هرتسوغ السفير الإسرائيلي السابق للولايات المتحدة: «إسرائيل ترحّب برغبة الشرع لبناء علاقة قوية مع الولايات المتحدة، وهي تفضّل أن تراه متحالفا مع أصدقائها وليس مع أعدائها.. سوريا لم تعد جزءا من المحور الإيراني بفضل الانتصارات التي حققتها إسرائيل في السنتين الأخيرتين». لكن إسرائيل تبقى متحفّظة من الشرع، وذهب بعض المحللين الإسرائيليين إلى أن إسرائيل هي العائق أمام «شرعية كاملة» للنظام السوري الجديد في واشنطن، وإلى أنه يجب استغلال هذا الأمر لإجبار الشرع للانضمام إلى الاتفاقيات الإبراهيمية، أو على الأقل للقبول بالمطالب الأمنية الإسرائيلية بشأن منطقة معزولة السلاح في جنوب سوريا، والإبقاء على حرية حركة المقاتلات الإسرائيلية في الأجواء السورية، للإغارة على ما تعتبره إسرائيل تهديدا لأمنها، وللمرور عبرها لقصف إيران وربما العراق.
ما تريده إسرائيل من سوريا هو منع الجيش التركي من نصب منصّات صواريخ مضادة للطائرات على أراضيها، وتعتبر ذلك تهديدات مباشرا لأمنها، ولما تراه حقّها في الهيمنة المطلقة على الأجواء السورية. وهي ترفض سحب قواتها من المناطق التي احتلتها بعد سقوط نظام الأسد، وتربط ذلك بجعل جنوب سوريا منطقة عازلة منزوعة السلاح. الولايات المتحدة تولي سوريا أهمية كبيرة وهي ترعى المفاوضات الجارية بين إسرائيل وسوريا، حول هذه المسألة، وصرح الرئيس السوري أن هناك مفاوضات مباشرة مع إسرائيل وأن هناك تقدما كبيرا فيها. ويجري تناقل أخبار عن قرب التوصل إلى اتفاق ترتيبات أمنية جديدة في الجنوب السوري.
حصاد الزيارة
لا يُعرف الكثير عمّا دار حقا في اجتماع الشرع مع الرئيس الأمريكي في البيت الأبيض، لكن من الواضح أن زيارة الشرع جاءت بحصاد وفير، فقد رُفعت عنه شخصيا العقوبات، وأعلنت الخزانة الأمريكية وقفا مؤقتا لمعظم العقوبات المفروضة على سوريا، مع استثناء ما له علاقة بإيران وروسيا، ما يفتح الباب أمام تدفق الاستثمارات اللازمة لإعادة الإعمار ولانتشال الاقتصاد السوري من تحت الركام. كما رشح أن الولايات المتحدة ستساعد النظام السوري في رأب الصدع مع الأكراد، وظهرت أصداء الزيارة في تصريحات قائد «قوات سوريا الديمقراطية ـ قسد»، مظلوم عبدي، الذي أبدى استعدادا للاندماج في أجهزة الدولة السورية. لكن يبدو أن الرئيس السوري قد وقع في فخ المبالغة حين قال، إن ترامب يدعم الموقف السوري على حساب المطلب الإسرائيلي بخصوص جعل جنوب سوريا منطقة منزوعة السلاح، ولا دليل بالمجمل على أن الشرع قد أقنع ترامب بضرورة لجم الانفلات الإسرائيلي في سوريا، الذي وصل ـ كما قال الشرع ـ إلى ألف غارة، من دون أن يطلق الأمن السوري رصاصة واحدة.
لقد جرى الاتفاق أيضا على فتح السفارة السورية من جديد في واشنطن، وعلى انضمام سوريا إلى التحالف الدولي لمحاربة تنظيم داعش. لكن يبقى الإنجاز الأكبر للزيارة التاريخية للرئيس السوري للبيت الأبيض هو الحصول على شرعية النظام وشرعية القائد، فدخول واشنطن مهم للشرع حتى لو كان ذلك من الباب الخلفي.

1