
في أحد الأيام التقيت بالصدفة مع زميل كنا قد درسنا معاً في المرحلة الإعدادية، ولم أره منذ سنوات. يا لها من صدفة جميلة. وبعد تبادل الأخبار حسب الطقوس العُمانية، والتوغل في بحر الأحاديث والذكريات قال لي، ألا تذكر صديقنا السيد عَلَى الخفيف. فبرق مباشرة في ذهني ذلك الشخص، طبعاً ومن ينسى الشخص الجميل روحاً ومعشراً، قلت له.
حكاية زميلنا على الخفيف ليست كالحكايات العابرة أو التي يمكن أن تنسى. وهذا ليس اسمه بل هو الاسم الحركي له، ولُقب به ومشى عليه الاسم كما يقال، وأصبحنا نناديه ونعرفه به. زميلنا على الخفيف شخص غريب الأطوار كل حياته تندرج تحت هذه المقولة التي اتخذها شعاراً له ولحياته، في الحقيقة هو لم يتخذها ولم يسعَ إلى هذا الشعار ولكن لصقت به، لما عرف عنه بأن كل شيء معه على الخفيف. تسأله كيف الأحوال يقولك على الخفيف، في الفرح يكون على الخفيف وعندما يكون حزيناً وتريد أن تواسيه وهو في قمة الحزن على الخفيف وكأنه يقول حزن على الخفيف، عندما يكون مريضا مهما كانت درجة المرض ثقيلة على جسده، لا يقول إلا مرض على الخفيف، وفي قمة صحته وسعادته وبهجته لا يكون ذلك إلا على الخفيف. تراه يمارس الرياضة ويبذل جهداً قوياً، لكن ذلك ليس معه إلا على الخفيف، وفي بعض المرات عندما لا يريد أن يتحدث فقط يرسم حركة بكفه، يقلبها على الجوانب نستشف من تلك الحركة أنه يريد أن يقول لك على الخفيف.
مرة كنا معاً في السيارة نستمع للفنان الذي يصدح ويطربنا بصوته وهو مندمج معه ويردد كلمات الأغنية وكان في قمة السعادة، سألته مبسوط فرد عليّ على الخفيف. يبدو أن كل الحياة معه على الخفيف. ومنها أن لا شيء مكتمل، بين بين. أو بين منزلتين. كل عبارة يقولها أو كلمة يتلفظ بها إلا وتبعها بجملة (على الخفيف).
ثقافة الألقاب التي تطلق على الأشخاص في المجتمعات الإنسانية ليست غريبة، ويبدو أنها عابرة للمجتمعات والحدود، ولا أدري إن كانت لها علاقة بتجليات اللغة وسيوسيولوجيتها. من ذلك نستشف ما ذكره الروائي الروسي مكسيم غوركي في الجزء الأول (الطفولة) من ثلاثية سيرته الذاتية التي ترجمها للعربية الكاتب العُماني أحمد الرحبي، يذكر مكسيم بأنه تعرف على شخص مستأجر غرفة في المنزل نفسه الذي يسكن فيه، وكانوا كلما دعوه لتناول الأكل، أو شرب الشاي، أو كلما طلب منه شيء يرد عليهم بجملة (أمر طيب) إلى أن أصبح لقبه وأصبح ينادى به.
وفي حالة مشابهة يذكرنا هذا بما قاله ابن بطوطة عندما زار المدينة العُمانية قلهات، وامتدح أهلها في كتابه الموسوم بـ»تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار» قال: عندما يتكلمون ويقصد بهم أهل قلهات يتبعونها بلا، فيقولون مثلا تأكل لا، تمشي لا تفعل كذا لا. لكن ربما صديقنا مختلف عن أولئك الذين تحدث عنهم ابن بطوطة.
وبعد هذه السنوات الفاصلة بيننا أعود وأتمعن في هذا الشخص وسيرته وأتفكر في ذلك. لا يمكن أن تكون تلك سذاجة، أو يُفسر ذلك بكسل أو تبلد في المشاعر، وما إلى ذلك لكنها فلسفته في الحياة خطها وأراد أن يسير عليها. هذه الشخصية بالتأكيد لم تكن عبثية أو غير معنية بالحياة، ولكن لها منظور فلسفي خاص، حتى لو كانت عبثا أو شيئا غير مجدٍ أو شيئا هو وحده الذي يعرفه. فعلى ما يبدو أن ليست له قمة في الأشياء وأن الموازين لدية دقيقة جداً بحيث يضعها في البين بين، أو في الوسط لا هو ينحدر بها إلى الأسفل ولا هو يعلي من شأنها ويصل بها إلى القمة، أو حد أعلى، أو هل لديه حدود مرسومة لا تتعدى ما يعتقد هو بها. لا أدري في الحقيقة أيمكن أن يصنف تحت فلسفة العبث وعدم الجدية والابتعاد عن الأعماق والتعمق التي قد تجلب الأذى والألم، فيفضل أن يبقى خفيفاً متخففاً ينظر للحياة بمنظور آخر ببساطة وأريحية لا تتطلب منه إلا ذلك الشعور الذي يجد نفسه فيه.
التعمق في هذا الشخص ندرك بأنه يتبع فلسفة قائمة ومنهجا في الحياة. الوسطية أو خير الأمور أوسطها، أو بين المنزلتين، وأن النظر إلى كثير من الأشياء من خلال منظور وسطي هي بلا شك فلسفة قائمة بذاتها. لكن من ناحية أخرى قد يكون على الخفيف ينحو بتلك العبارة الكاشفة لممارسته، إلى اتباع درجة من العبث أو اللاجدوى أو هي احترام للذات والعالم من منظور مختلف، أو هو تمرد على الحياة، أو هي عزلة وغربة من نوع آخر مختلف، أو رغبة في الاختلاف والتفرد والجنوح نحو الاستثناء، كما قال فردريك نيتشه (أن يصير المرء موجوداً معناه أن يمضى نحو الاستثناء، فليمضِ القطيع إلى مصيرة وليصعد الاستثناء جبله بمشقة، وفي الصحراء دائماً عاش الصادقون).
المسألة قد تكون اللامبالاة لما يحدث وما يراه حوله، أهو سلوك إيجابي، وقد تكون السلبية بنفسها نزوع إلى التخفف من الأثقال والتحرر من الموازين التي تثقل كاهل الإنسان روحياً وجسدياً وتستنزف فكره (وتحول الإنسان إلى مكب للذات والاستهلاك).
وأنا أستذكر شخصية صديقنا هذا تلوح في ذهني شخصية (ميرسو) في رواية «الغريب» للكاتب الفرنسي الجزائري البير كامو التي حصل بموجبها على جائزة نوبل عام 1958 بفارق صوت واحد مع الكاتب اليونانى نيكولاس كازنتزاكس صاحب رواية «زوربا» اليوناني. شخصية ميرسو في تلك الرواية لا تخلو هي الأخرى من العبث واللاجدوى، طرح من خلالها البير كامو، فلسفة العبث واللاجدوى واللامعنى، فكل شيء حسب ميرسو في الرواية بلا معنى وبلا جدوى وكل شيء لديه يتساوى الحزن والفرح، وكل شيء عادي لديه حتى وفاة والدته، لا يدري عن الوفاة متى حدثت البارحة، أو اليوم، لم يقابلها بالحزن والألم، بل باللامبالاة وانعدام الإنسانية. فلسفة العبث أو العبثية لها كثير من الأدباء والمفكرين، أذكر في هذا الصدد صمويل بيكيت ومسرحيته في «انتظار غودو» التي يتحدث فيها عن انتظار غودو الذي لم يأتِ حتى الآن، وربما لن يأتي تركت المسرحية الكثير من التأويلات والتساؤلات عن اللاجدوى واللامعنى والعبث. ومن ذلك أيضاً تأتي جل أعمال ميلان كونديرا كما في روايته (حفلة التفاهة) التي عالج فيها فكرة اللامعنى واللاجدوى والتفاهة. التي يرى فيها هو الآخر فلسفة من نوع آخر عندما يقول لصديقه دارديلو «تنفس هذه التفاهة التي تحيط بنا، إنها مفتاح الحكمة، مفتاح المزاج الجيد والرضا».
